محاكمة نظرية العلماء الأبرار!

وقفة عند كتاب وهم القراءة المنسيّة: محاكمة علمية لنظرية «علماء أبرار»

1

عُرِضَت «نظرية العلماء الأبرار» حتّى الآن في أربع مقالات: القراءة المنسية: إعادة قراءة نظرية العلماء الأبرار، الفهم الأوّل لأصل الإمامة لدى الإسلام الشيعي (أيار 2006)، تصنيف العقائد الدينية (شباط 2007)، تأملات في مصادر العقائد الدينية (تشرين الثاني 2007)، والعلماء الأبرار (كانون الثاني 2017).

وقد تعرّضَت هذه نظرية منذ انتشارها الأول (في إطار المقالات)، أيْ منذ النصف الأوّل من سنة 2006، إلى انتقادات مستعجلة ودوغمائيةٍ ومشددة من قبل «مدافعي الإمامة القدسية». إذ طُبِعَت الردود الأولى في هذه «المجلة العقائدية الداخلية» الصادرة في قم: دورية آئینه نقد، شماره ۵: بازخوانی مفهوم امامت و تشیع، نقدها و واکنش‌ها، أيلول 2006، مِن إعداد “رمضان علي شوبايي جويباري”، مكتب التبليغ في حوزة قم العلمية، مكتب الإجابة على المسائل الدينية المستحدثة، 235 صفحة.

وقد صدر في نقد نظرية العلماء الأبرار باللغة الفارسية ما يقارب خمسون عنواناً ما بين سلسلةِ مقالاتٍ ومقالات مستقلة ونصوص قصيرة. وإن أوّل كتابٍ صدر لنقد كتاب العلماء الأبرار الذي لم يصدر أصلاً [بلغته الأصلية]، هو الكتاب الآتي: حسن علي بور وحيد، كتاب مکتبدر فرآیند نواندیشی‏: بازخوانی انتقادی نواندیشی محسن کدیور در حوزه شیعه‌شناسی، ممثلية سماحة القائد المعظّم في الجامعات، مكتب نشر معارف، قم، شباط 2016. 296 صفحة.

وفي العالم الناطق بالعربية بُذلت جهودٌ في تناول نظرية العلماء الأبرار؛ بدأت هذه الجهود في عام 2010 بصدور عددَين خاصَّين لنقد هذه النظرية وبالوصف الآتي: نصوص معاصرة: فصلية تعنى بالفكر الديني المعاصر، تصدر عن مركز البحوث المعاصرة في بيروت، [حيدر حبّ الله (رئيس التحرير)]، السنة الخامسة، «ملفّ العدد: الإمامة، قراءات جديدة ومنافحات عتيدة»؛ العدد التاسع عشر، صيف 2010، ص11-123؛ العدد العشرون، خريف 2010، ص11-119.

تضمّنت مجلة نصوص معاصرة ترجمةً لنصَّين منسوبَين لكديور، بالإضافة إلى أحد عشر مقالاً في نقده. كل الانتقادات المنشورة في هذين العددَين تُرجمَت عن الفارسية إلى العربية. تسعة من هذه الانتقادات مأخوذة من دورية آئينه انديشه [مرايا الفكر] آنفة الذكر، (ومِن دون أن يرد في العددَين أيّ ذكر للمصدر)، وهنالك نقدٌ مقتبس من مجلة مدرسة الفصليّة، ونقد واحد لا يُعلَم مكان نشره، ولا حتّى اسم كاتبه، هل هو اسم حقيقي أم اسم مستعار.

المقال الأوّل المنسوب لكديور هو نصّ المحاضرة المعنونة «إعادة قراءة الإمامة في ضوء النهضة الحسينية»، ولكن بعنوانٍ مختلف: «الإمامة والصيروة التاريخية، كيف تغيّر مفهوم الإمامة عند الشيعة بمرور الزمن؟»؛ والمقال المنسوب الآخر هو «التشيّع في قراءة جديدة: مطالعات في نظرية الإمامة بين الغلوّ والتقصير»، وهو دمجٌ لخمس محاضرات أخرى بالإضافة إلى مقال القراءة المنسيّة.

بعد مرور بضعة أشهر على صدور هذين العددين، صدر في عام 2011 كتابٌ بالعنوان التالي: القراءة المنسيّة إعادة قراءة نظرية: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار وأربع مقالات أخرى، تعريب وتقديم وحواشي: د. سعد رستم، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2011، 215 صفحة.

تضمّن هذا الكتاب المقالات الخمس الآتية: القراءة المنسية: إعادة قراءة نظرية العلماء الأبرار، الفهم الأوّل لأصل الإمامة لدى الإسلام الشيعي (أيار 2006)، إعادة قراءة التشيّع: معايير إعادة قراءة التشيّع، (محاضرة في الكلية الفنية بجامعة طهران، الجلسة الأولى، كانون الأوّل 2005)، إعادة قراءة مفهوم الإمامة في ضوء النهضة الحسينية (محاضرة يوم عاشوراء في حسينية الإرشاد، شباط 2006)، تأملات في مصادر العقائد الدينية (نصّ محاضرة ليلة القدر في حسينية الإرشاد، تشرين الأوّل 2006)، دراسة لزيارة الجامعة الكبيرة (نصُ محاضرةٍ لم يُحرَّر، طهران، آذار 2006)

 وقد صدرت في كانون الثاني 2013 الترجمة العربية الثانية لمقال القراءة المنسية، وبصورةٍ الكترونية: القراءة المنسية… مراجعة لنظرية «العلماء الأبرار» القراءة الأولى للمذهب الشيعي عن أصل الإمامة، ترجمة أحمد القبانجي، الحوار المتمدن، العدد: 3972، 14/1/2013.

 

2

وفيما يلي وصف أوّل كتابٍ مستقلّ يصدر بالعربية في نقد نظرية العلماء الأبرار: أحمد سلمان، وهم القراءة المنسية: محاكمة علمية لنظرية «علماء أبرار»، بيروت، دار الولاء، 2018، 229 صفحة.

مؤلف الكتاب الشيخ أحمد سلمان، رجل دينٍ شيعي من القطيف (في المملكة العربية السعودية)، ولم ينشر عن نفسه أيّ معلومةٍ سوى الصور الشخصية، ولا يُعلَم في أيّ سنةٍ ولِد، ومَن هم أساتذته في الحوزة، وما المستوى الذي توصّل إليه في الدرس الحوزوي. وبحسب ما يبدو من صوره الشخصية فإنّه في العقد الثالث من عمره. يُعد هذا الكتاب ثامن كتابٍ صادرٍ له، وإن مؤلفاته الصادرة الأخرى هي كالآتي: وابتغوا إليه الوسيلة (2011)، الشهب الأحمدية على مُدّعي المهدويّة (2012)، براءة نساء الأنبياء من الزنا، بين التحقيق والتلفيق (2013)، نهج البلاغة، فوق الشبهات والتشكيكات (2015)، فاطمة الزهراء (2016)، أحداث ما بعد رحيل الخاتم (2016)، مبيت علي (ع) ليلة الهجرة (بين النفي والإثبات) (2016)، وتفسير القمّي (بحث حول النسخة المتداولة) (2018). إنّه منذ عام 2012 تقريباً ينشر في كلّ شهرين كتاباً واحداً، وإن كتبه منصّبة في الدفاع عن تعاليم التشيّع من وجهة نظرٍ تقليدية، وإن الجدل حول مزاعم أهل السنة يمثّل اهتماماته الرئيسة.

أهدى الشيخ سلمان كتاب وهم القراءة المنسية إلى الإمام الهادي (ع). (ص11). وأكّد في مقدّمة الكتاب بأن القراءة المشهورة لمفهوم الإمامة هي وليدة النصوص المعتبرة الصادرة عن الأئمّة، ولا ترتبط بالغلاة والمفوّضة. وقد صرّح بأنّ كتابه هو في نقد «نظرية القراءة المنسية»، مِن دون أن ترد في نصّ الكتاب أيّة إشارة إلى اسم صاحب النظرية، سوى إشارة في هامش المقدّمة: «صاحب هذه النظرية هو (محسن كديور) رجل دين إيراني معارض [للسلطة الحاكمة]، يقيم في الولايات المتّحدة الأمريكية، له مجموعة من المقالات والمحاضرات حول عقيدة الشيعة في الإمامة، جُمِعَت في كتابٍ واحد تحت عنوان (القراءة المنسيّة).» (ص14) وقد ورد في فهرس المصادر ترجمة سعد رستم على أنّها من مؤلفات محسن كديور (ص226، رقم 73). ليتّضح بأن هذا الكتاب مَثَّلَ مصدره الوحيد عن آراء كديور. والطريف أنّه لم يجرأ ولو لمرّةٍ واحدة وحتّى في قائمة المصادر على أن يذكر العنوان الكامل لهذا الكتاب؛ أيْ: القراءة المنسية إعادة قراءة نظرية: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار وأربع مقالات أخرى. وقد اقتصر في كلّ الكتاب، بما فيه قائمة المصادر على ذكر عنوانه بنحوٍ مختصر: «القراءة المنسية».

قُسِّم الكتاب على فصول، ولكن مِن دون أن تُرقَّم. عرَّف الشيخ أحمد سلمان في بداية الكتاب نظريتَين رئيسيتَين في التشيّع في باب الإمامة، أيْ نظرية الأئمة المعصومين ونظرية العلماء الأبرار، وذهب في الفصل التالي إلى أنّ أدلّة القول الأوّل عن العقل والكتاب والسنة هي أدلّة قطعيّة، مستدلاً بشهادة محمّد باقر المجلسي على تواتر الروايات التي تنصّ على مقامات فوق بشريّة للأئمة. (ص30) وقد ادّعى بأن خبر الآحاد الدالّ على صفات فوق بشريّة للأئمة محفوف بالقرائن القطعيّة؛ معتقداً بأن التواتر المعنوي للأخبار (من دون الاكتراث بعدم اعتبار سندها) يُعدّ حجّة. (ص36-38) ومن جملة الشواهد التي يذكرها هو ادعاء التواتر لدى الشيخ الحرّ العاملي في كتاب «إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات». (ص38)

وقد بيّن المؤلفُ [الناقد] معنى الغلوّ والتفويض في إطار التفكير السائد، مستنداً إلى شواهدَ نقلها عن نظرائه في الفكر، ليوضّح بأن نظرية العلماء الأبرار فاقدة للدليل. وفي معرض حديثه عن المنهج التاريخي والنقدي زعم الشيخ أحمد سلمان بأنّ المؤلّفَ أخذ هذه الفكرة مِن كتاب «تطوّر المباني الفكريّة للشيعة في القرون الأولى» لـ”حسين مدرّسي”، وعدّ المدرّسيَ متأثّراً تأثراً كبيراً بـ”ويلفريد مادلونج”! (هامش ص51)، من دون أنْ يقدّم أيّ دليلٍ على هذين الزعمَين. لم ترِد في قائمة مصادر الكتاب أيّ عنوان من مؤلفات مادلونج، وإن معلوماته عن المدرّسي محدودة بالترجمة العربية لكتابِه التي أصدرها فخري مشكور. (ص220-221، رقم 34)

يعنى نصّ كتاب الشيخ أحمد سلمان بنقد شواهد القراءة المنسية طبقاً لمنهجٍ دوغمائي (غير تاريخي وغير انتقادي). وبحسب ما توضحه قائمة المصادر فإنّ المؤلف لا يعرف الفارسيّة، وحتّى أن إحالته لكتاب “الحكومة الإسلامية: ولاية الفقيه” للسيّد الخميني هي احالة للترجمة العربية لهذا الكتاب (ص222، رقم 41). وللاطلاع على مستوى معلومات الشيخ أحمد سلمان عن آراء كديور تجدر الإشارة إلى هذا النقد: «كثيراً ما يشيد صاحب (القراءة المنسيّة) بالسيّد الخميني ويعتبره وجهاً للتشيّع النقيّ.» (ص117، الهامش) ومن جملة الشواهد الموضّحة للتفكير غير النقدي عند الشيخ أحمد سلمان في تناوله المصادر الروائية هو اعتقاده بأن كتاب سليم بن قيس كتابٌ معتمَد، وقد لامَ المؤلّفَ لعدّم اعتماده هذا الكتاب الشيعي المتقدّم. (ص133-134). في حين أن النسخة المتوافرة لكتاب سليم بن قيس لا يمكن اعتمادها.

 

3

ومن جملة الفصول الجديرة بالقراءة في كتاب الشيخ أحمد سلمان هي إجابته على السؤال الأساسي الذي يقول: لماذا اختلف المتقدّمون في الصفات فوق البشريّة للأئمة؟ يقرّ الشيخ أحمد سلمان مِن دون أن يعلم بصحّة الفكرة الرئيسة في نظرية العلماء الأبرار، وقد انبرى لتبرير الأدلة الموجودة، مستعيناً بزبدة المقال لمامقاني الذي يُعد من المصادر الأصلية لمقال القراءة المنسية، معتمداً هذا الكتاب لتقديم سبعة أدلّة أو سبعة إجابات على السؤال آنف الذكر: الأوّل: خفاء الأدلّة عن بعض العلماء المتقدّمين، الثاني: انتمائاتهم السابقة للعقائد الدينية، الثالث: التأثر بأجواء المخالفين [أهل السنة]، رابعاً: اختلاف القابليات، خامساً: الخوف من السلطة وحكومات الجور، سادساً: إلقاء الخلاف بين الشيعة من قبل الأئمة أنفسهم لمصالح مهمّة يعلمونها، والتي اختفى سرّها على الأصحاب (ص 184-186)، وسابعاً: أهمّ دليل لمنع نشر الأحاديث المشتملة على المقامات فوق البشرية للأئمة هو لقطع الطريق أمام الغلاة ولكي لا يستغلوا هذه الأحاديث. (ص186-188).

إذن نجد الناقدَ يتفق مع المؤلف على الآتي: أوّلاً، صدرت في الحقيقة أحاديث عن الأئمّةِ أنفسهم تتضمّن نفياً لفضائلهم فوق البشرية. ونهاية ما في الأمر هو أن الدّاعي إلى صدور مثل هذه الأحاديث هي أسرار مخفيّة عنّا، وما علينا في الأمر الاعتقادي إلا أن نقرّ تعبّداً بأن مقصود الأئمة من هذه الأحاديث المعتبرة في السند كان شيء آخر لا نفهمه! ثانياً: إذا لم تصدر عن الأئمة روايات في إبراز فضائلهم فوق البشريّة فقد كان ذلك خوفاً من الغُلاة ومِن استغلالهم لهذه الروايات. وإذا رفض أحدٌ هذا التبرير فستخبره النتيجة المنطقية بأن التراث المعتبر لدى الأئمة ينكر فضائلهم فوق البشريّة. ثالثاً: التبريرات الخمس الأولى ما هي إلا تهرّب المنتقد من قبول الواقع. فأصحاب الأئمة وعلماء متقعرون في الفكر كانوا يؤمنون بنظرية العلماء الأبرار. ولكن أتباع النظرية الرسمية يرفضون هذا الاتجاه وينقدونه.

خاتمة الشيخ أحمد سلمان هو القسم الآخر الجدير بالقراءة في هذا الكتاب، حيث يعرض خمسة من التوالي الفاسدة لنظرية العلماء الأبرار، إذ يرى أن بطلانها هو من ضروريات مذهب الإمامية.

الإشكال الأوّل: إذا كانت فضائل الأئمة فوق البشريّة لا تميّز التشيّع عن سائر المذاهب الإسلامية، وإذا كان دافع التشيّع لاختيار الأئمة يعود لرجحان روايتهم للإسلام على الروايات الأخرى، فإذن ما الفرق بين الشيعي والسنّي؟ (ص211-213). يمثّل هذا الإشكال المحور المشترك لدى كلّ من انتقد هذه النظرية، ويستبطن اذعاناً بعقيدةٍ مفادّها أنه ليس في تعاليم مدرسة أهل البيت رجحان ذاتي على تعاليم مدرسة الصحابة والخلفاء، وإنما الرجحان يعود لشخصهم ولفضائلهم فوق البشريّة؛ ومع إنكار هذه الفضائل فوق البشريّة لا يبقى وجه للرجحان. فإنَّ مَن يفكّر بهذه الطريقة يُنكر الرجحان العقلي والاستدلالي لأهل البيت على الأشاعرة والحنابلة والماتريدية وأمثالهم. في حين أن اعتبار التشيّع في نظريّة العلماء الأبرار يكون في أرجحية محتوى تعاليم أئمة أهل البيت. وبعبارةٍ أخرى إن أتباع نظرية الإمامة القدسيّة هم من أهل التعبّد في الاعتقادات، ولا يقرّون بأرجحية تعاليم أهل البيت في المنافسة العقليّة الحرّة.

الإشكال الثاني: بناءً على هذه النظرية لا يوجد دليل على حصر الأئمة في اثني عشر شخصاً، وإن للإمامة بهذا المعنى أن تكون مستمرّة إلى يومنا هذا. في حين أن البشارة السماوية تضمّنت هذا الأمر [كون الأئمة اثني عشر شخصاً]. (ص212_213)

لقد أشرتُ في محاضرة العلماء الأبرار (كانون الثاني 2017) إلى هذه القضيّة وأوضحتُها. ولكن الناقد للأسف ألّفَ كتابه من دون الإلمام بآراء الكاتب. إن كيان التشيّع قائم على أخذ المعارف الإسلامية عن عليّ بن أبي طالب وأهل بيت النبيّ. يزعم الناقد بأنّ الله سبحانه هو من اختار العدد الاثني عشر، ولكن لتعزيز هذا الزعم لا توجَد أيّ آية قرآنية، ولو متشابهة، ولا حتّى أيّ حديث قدسي معتبر السند (ناهيك عن المتواتر وخبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعيّة). وعليه فإنَّ القول بأن العدد الاثنا عشر هو عدد إلهيّ هو زعم مِن دون أساس. أمّا إذا قيل بأنّ النبيّ هو من أخبر عن خلفائه الاثني عشر فسنكون بإزاء زعمٍ أهون، وإن إثباته أيسر. ولكن يا تُرى في أيّ دليلٍ معتبر ذكر النبيُّ أسماء هؤلاء الخلفاء الاثني عشر فرداً فرداً؟! إنّه زعم مبالغٌ فيه إلى حدّ كبير وغير قابل للاثبات. ومَن يقدر على إثباته فليفعل، فكلّ المجال مُتاحٌ أمامه!

الإشكال الثالث: إن القبول بنظرية العلماء الأبرار يعني انعدام الدليل على وجود المهديّ المعيَّن بالمعنى الشيعي (الولادة والاستتار خلف ستار الغيبة). في حين أن إنكار أيّ واحدٍ من الأئمة وإمامته هو خروج عن ربقة الإيمان. (ص213)

أوّلاً: تناولتُ هذه القضيّةَ صريحاً في محاضرة العلماء الأبرار (كانون الثاني 2017). ثانياً: ما هو مُسَلّمٌ في مسألة المهدويّة هو بسط العدل في آخر الزّمان بوساطة قائم آل محمّد. أمّا تفاصيل القضيّة، من قبيل توقيت ولادته ليست من المعارِف اليقينية. هنالك أخبار آحادٍ حول هذا الموضوع، ومَن لم يتحصّل لديه اليقين مِن هذه الأدلّة الظنيّة لا يمكن ارغامه على التعبّد. ثالثاً: لا يمكن تبيين غيبة الإمام الثاني عشر في نظرية العلماء الأبرار، بمعنى أن القضية فاقدة للدليل المعتبر. ولكن [هذه النظرية] لا تنكر إمامة أحدٍ، لكي تُطبَّق [على قائلها] فتوى التكفير والخروج عن ربقة الإيمان!

وبالنسبة لإمامة الصَبيّ والغَيبة فإن نظرية العلماء الأبرار تقول بالتوقف؛ وهذا يعني عدم توافر دليل معتبر للاثبات، مِن دون أن تنكر إمامتهم. فنحن نبذل وقتنا لتحكیم قضايا عقائدية وشرعية أهمّ، والتي تكون فيها فائدة عمليّة للحياة الإيمانية.

الإشكال الرابع: إن طهارة النفس في نظرية العلماء الأبرار تكون مانعة مِن اقتراف المعصية، ولكنّها ليست مانعة من الوقوع في الخطأ والاشتباه. ومِن هنا كيف نستطيع التعبّد بما ورد عنهم؟ فإن كلّ ما صدر عنهم مِن آراء تصبح مجرّد استنباطات فقهية لهم، قابلة للأخذ والرد، وبالتالي ليست مصدراً من مصادر التشريع. وإذا ادّعى أحدهم فهماً أدقّ من استنباط هؤلاء فلماذا يستوجب اتّباع الأئمّة؟ (ص214)

إن النقطة المشتركة بين نظرية العلماء الأبرار ونظرية الإمامة القدسيّة هي عدم صدور المعصيّة من أئمّة أهل البيت. ولكن ماذا عن الوقوع في الخطأ؟ يرى الاتجاه الدوغمائي بأنّ الله سبحانه صرف أربعة عشر شخصاً عن الوقوع في الخطأ. ولكن بناءً على أيّ دليل؟ تحدّثتُ عن دلالة آية التطهير وعدم إمكان قراءة الإرادة التكوينية فيها في هذه المحاضرة: صالحي نجف آبادي وتفسير آية التطهير (22 حزيران 2006). إن العلم هو أكبر عائق أمام الوقوع في الخطأ، والعلماء الأبرار حازوا على أعلى درجةٍ بشريّة لهذا العلم. ولكن أن نظنّ بأن الله سيتدخل في حال وقوع الخطأ فسنكون بإزاء أمر غير قابل للإثبات. إن حجّية أقوال الأئمة هو بسبب صحّة محتواها، وليس لقائليها. وإننا نقرّ بها ونقبلها لأنّها صحيحة، ولا نقول بأنّها صحيحة حتماً لأنّهم هم من قالوا بها! وفي منافسة علميّة منصفة يقول أصحاب نظرية العلماء الأبرار بأنّ منهج وأقوال الإمام علي وسائر الأئمّة هو الأفضل والمتقدّم. في حين أن أتباع نظرية الإمامة القدسيّة لا يشاركون في مثل هذه المنافسة، فإنّهم متعبّدون حقّاً في الأصول العقائدية. ما الضير في أن نعدّ آراء الأئمة نتيجة لاجتهاداتهم كما كان يعتقد ابن جنيد؟ لقد أقرّت الشيعة باجتهاد الإمام جعفر الصّادق بصفته الإطار العام لفكرها الديني. ولكن فيما لو توافر في المستقبل إطار أقوى من أئمة أهل البيت فمن الواضح أن الأوامر القرآنية تحثّ على اتّباع القول الأحسن. ويا تُرى هل إن أتْباع الإمامة القدسية يدعون إلى اتّباع المفضول تعبّداً مع وجود الأفضل؟! بالطبع إن ظهور أشخاص أفضل من الأئمة في المستقبل هو مجرّد احتمال. ولكن ما هو واضحٌ هو أن التعبّد بالأئمّة لدى أتْباع الإمامة القدسيّة أقوى مِن التعقّل ومِن لزوم العمل بأحسن الأقوال.

الإشكال الخامس: إن هذه النظرية هي إعادة تأهيل للنظريّة الزيديّة للإمامة! تشترط الإمامية توافر النصّ الإلهي والعصمة والتأييد الإلهي بالعلم والمعجزات، أمّا الزيدية فقد اكتفوا باشتراط كون الإمام فاطميّاً، وأن يكون عالماً زاهداً متصديّاً للأمر من خلال قيامه بالسيف على الظلمة. ومن هنا فإن هذه النظرية في الحقيقة هي استيراد لنظرية الزيدية في الإمامة، وعلماء الشيعة المتقدّمون تعرّضوا لها في كتبهم ونقدوها. (ص214-215)

إنّه قياسٌ مع الفارق. قد توجَد بعض التشابهات، ولكنّ الاختلافات عميقة. أوّلاً: إن نصّ الإمام على الإمامِ الذي يليه هو ركن أساسيّ في نظرية العلماء الأبرار. ومنذ نهايات القرن الثاني الهجري لا يُمكن إثبات هكذا نصّ، أيْ منذ نهايات عمر الإمام عليّ الرضا. في حين أن الزيدية لا تلتزم بهذه المحدوديات، فكون الإمام فاطميّ بالمعنى العام هو الشَّرط الأوّل للإمام لدى الزيدية، في حين أن المُعيّن في نظرية العلماء الأبرار هو النص وليس الوراثة. ثانياً: إن القيام بالسيف على الجائر والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يمثّل الشرط الثاني للإمامة لدى الزيدية؛ وفي نظرية العلماء الأبرار لا يُعد القيام المسلّح ضدّ الجائر أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مُطلقاً شرطاً من شروط الإمامة. إذ أن القدوة في نظرية العلماء الأبرار هو الإمام محمّد الباقر والإمام جعفر الصادق. ثالثاً: الإمامة في نظرية العلماء الأبرار هي مصدر للمعرفة الدينية، وليست زعامة سياسية. في حين أن الزيدية تعدّ الإمام رئيساً للدين والدنيا معاً، وإنّه مُنتَخَبٌ من قِبَل الأمّة، وليس منَصّباً مِن الله.

 

4

إن كتاب الشيخ أحمد سلمان بالمقارنة مع الكتاب الفارسيّ الصّادر عن ممثليّة المرشد في الجامعات يُعد أقوى، وفيه دفاع أفضل عن نظرية الإمامة القدسيّة. وإن مضمونه أقرب للمتبنيات التقليدية في النظرية السائدة، بالمقارنة مع الانتقادات المشتتة المنشورة في مجلّة مكتب التبليغات، وترجمتها العربية في مجلة نصوص معاصرة. وعليه يمكن القول بأنّ هذا الكتاب مِن بين هذه الاصدارات الثلاثة قدّم دفاعاً أفضل عن التفكير التقليدي في هذا المضمار.

ولكنّ المشكلة المشتركة في هذه الأعمال، ولاسيّما في كتاب الشيخ أحمد سلمان هي عدم القدرة على الخروج عن إطار التفكير التقليدي؛ فالأمر أشبه بمن يريد الدفاع عن حريمه في العصر الحديث باستعمال السّهام والسيوف. لو كان الشيخ أحمد سلمان وغيره من المؤمنين بالتديّن التقليدي ملمّين بلوازم التفكير النقدي والمنهج التاريخي لعلموا بأنّ النهج الدوغمائي هو نهج عقيم لا يخضع للاختبار. وما يترتّب على مثل هذا النهج الاحتكام بنظرةٍ أُحادية، والظّن بأحقيّة الرأي الشخصي والبطلان المحتوم لآراء الآخرين. وفي الختام يجب أن نقدّم للشيخ أحمد سلمان الشكر والتقدير لإثارته الجديدة لنظرية العلماء الأبرار. وبالطبع على خلاف ما يتوقّع فإن في هذه المحاكمة سيمنح الرأيُ العام والأوساطُ العلميّة الحقَّ لنظرية العلماء الأبرار، وستعد نظرية الإمامة القدسية قراءة واهمة تفتقر للإطار الاستدلالي.

 

ایلول ۲۰۱۹