الإمامة فوق البشرية أم العلماء الأبرار؟

التعبّد الدوغمائي في مواجهة المنهج التاريخي الانتقادي

«العلماء الأبرار»، عنوان النظرية الشيعية الأولى حول أصل الإمامة، بصفتها واحدة من الركنَين الرئيسَين في التشيّع الجعفري. النظرية المنافسة التي تقابل نظرية العلماء الأبرار هي «الإمامة القدسيّة أو فوق البشرية» التي تشكّل عقيدة الأغلبية في الوسط الشيعي المعاصر. تنتمي نظرية العلماء الأبرار للتيّار الشيعي المعتدل، فيما تمثّل نظريةُ الإمامة فوق البشريّة التيّارَ الشيعي المغالي. ولكن ثمّة مشتركات في النظريتَين، فأوّلاً الإمامة في كلتا النظريتَين تمثّلُ ركن المذهب، وأنها أمر منصوب ومنصوص عليه: (مسألة كون الإمام مفترض الطاعة). وثانياً تشترك النظريتان في النقطة التي تميّز الشيعة عن سائر المسلمين، والمتمثلة بأخذ المعارف الإسلامية عن طريق أهل بيت النبيّ.

ولكنّ الوجه المائز بين النظريتَين هو أن نظرية الإمامة فوق البشرية تذهب إلى أن أئمة أهل البيت أوّلاً: قد نُصِّبوا للإمامة مِن قبل الله؛ وثانياً أنهم يمتلكون علم الغيب، (وبعبارةٍ دقيقة لديهم العِلم اللدنّي)، وثالثاً لديهم ملكة العصمة، ورابعاً: لا فرق بين الأئمة والنبيّ باستثناء تلقّي الوحي، وإن دائرة الإمامة تشمل الزعامة السياسية وأخذ المعارف الدينية (بل مطلق المعارف)، والولاية التكوينية.

أمّا متبنيات نظرية العلماء الأبرار فهي أوّلاً: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) منصَّب من لدن النبيّ (ص)، وإن كلّ إمام هو منصَّب من لدن الإمام الذي سبقه، وليس من الله أو من النبيّ. ثانياً: كانت علوم الأئمة مكتسبة، وإن التمايز العلمي بين الإمام علي (ع) وسائر الصحابة والتابعين يكون في تلقّيه المعارف الإسلامية من عند النبيّ بنحوٍ مباشر، ومنذ مرحلة الطفولة وحتّى يوم وفاة النبيّ؛ وإنّها مكانة وخصوصية لم يحظَ بها أيّ أحد في عالم الإسلام. لقد دوّن الإمام عليّ المعارف النبويّة، وإن «مصحف علي» كان يتناقل من إمام إلى الإمام الذي يليه. فقد كان أئمة أهل البيت أعلم النّاس في زمانهم في المعارف الإسلامية.

ثالثاً: كان أئمة أهل البيت قدوة النّاس من بعد النبيّ في الفضائل الأخلاقية، إذ أجمعوا الطهارة المعنوية وتهذيب النفس وتزكيتها، وكونَهم من المخلَصين، وفي كلمةٍ واحدة التقوى. ولا شك في أنهم لم يعصوا الله، ومِن المتيقَّن أنهم لم يرتكبوا أيّ ذنب. ولكن في الوقت نفسه لا يوجَد دليل معتبر للعصمة حتّى للأنبياء، ناهيك عن الأئمة. إذ أن القرآن والسنّة المعتبرة تفيد نفي العصمة وعلم الغيب عن بني البشر ومن دون أيّ استثناء. أضِف إلى أن حصر عدم ارتكاب المعاصي في أربعة عشر شخصاً هو أمر فاقد للدليل.

رابعاً: حدود الإمامة الانتصابية تشمل المعرفة الدينية، وإن الزعامة السياسية، بما فيها زعامة شخص محمّد بن عبد الله (ص) في المدينة، كانت أمراً انتخابياً وفقاً لرضى النّاس، ومن المتيقَّن أن زعامته لم تكن انتصابية، ولم تكن جزءاً من رسالته. حينما يكون الأئمة خارج الزعامة السياسية، وبحسب المصطلح لم يكونوا خلفاء المسلمين، (باستثناء الإمام علي بن أبي طالب (ع) لمدّة أربع سنوات وعشرة أشهر، وبعد تأخير طال خمسة وعشرين عاماً، والإمام الحسن بن علي (ع) لبعضة أشهر) فما الداعي إذن إلى أن نزعم بأن الإمامة الشيعية تعني الزعامة السياسية؟ أيْ الزعامة التي لم تتحقق على أرض الواقع سوى خمسة أعوام من مجموع 255 عاماً، أيْ بنسبة 2% من مجموع فترة حياة الأئمة. أضِف إلى أن الاطمئنان حاصلٌ في كون الولاية التكوينية ليست جزءاً من ضروريات العقائد الشيعية.

إن التباين الرئيس بين نظرية الإمامة فوق البشرية ونظرية العلماء الأبرار يكمن في المنهج. فلا يمكن أن تكون الأمور العقائدية، ولا سيّما الأصول العقائدية تعبّدية وتوقيفية، بل إنها تعقّلية وتحقيقية. أيْ أنها تحتاج إلى الدليل اليقيني العقلي أو النقلي القطعي. أيْ أن يكون النقل القطعي متواتراً في السند، (أو محفوفاً بالقرينة القطعية في أقل تقدير)، وأن يكون يقينياً في الدلالة. والآيات غير النّصّ (الظاهرة في المطلوب) وأخبار الآحاد -بالدلالة القطعية وإنْ كانت صحيحة السند- فإنّها تُعد دليلاً ظنيّاً، ولا تكون مقبولة في الأمر العقائدي، لا سيّما في الأصل الاعتقادي.

إن ما تزعمه نظرية العلماء الأبرار جليّاً هو أن الأركان الأربعة في نظرية الإمامة القدسية وفوق البشرية لا تتوافر فيها الشروط الملزمة في الأمور الاعتقادية؛ بمعنى أنّ كلّ هذه الأركان الأربعة لا يمكن إثباتها بالدليل اليقيني، والأدلّة التي تستند إليها هذه الأركان كلّها ظنّية؛ إذ أن دلالة الآيات والروايات المتواترة ظنيّة وليست نصّاً يقينياً. وإن أخبار الآحاد أيضاً التي تفتقر للاعتبار السندي لا يُعوَّل عليها. فإن كثيراً من القضايا العقائدية التي ينفرد بها التشيّع التقليدي ليس لها دليل سوى أخبار الآحاد ذات السند الضعيف. وإن عددها الوافر وإدراجها في الكتب المختلفة لا تعالج هذا الإشكال، لأنَّ الإشكال كامنٌ في نفس هذه الكتب! فمِن بين الكم الكبير من الرويات التي يمكن أن نقطع بأن الكثير منها لم تصدر عن النبيّ أو الأئمّة، يُستبعد قبول تواترها المعنويّ أو الاجمالي.

وبعبارةٍ أخرى إن المسألة الرئيسة في هذا المضمار تتمثّل باعتماد المنهج الدوغمائي في التفكير التقليدي (السنّي والشيعي على حدّ سواء). وإن المنهج الدوغمائي يعني عدم اعتماد المنهج النقدي في الدراسات التاريخية. فعدم اتّباع هذا المنهج، وعدم مراعاة المنهج التاريخي في الدراسات الدينية لا يفضي إلا إلى الدوغمائية. إن الإمامة في كليّاتها وجزئياتها ليست أمراً تعبّدياً. وإن أيّ زعمٍ افتقر للدليل المعتبر (طبقاً للتفاصيل المتقدّم ذكرها) لا يمكن القبول به مِن دون أيّ مجاملة. مَن يروم اتّباع منهج أسلافه في عقائده، ويريد اعتماد التعبّد والتقليد فهذا شأن يخصّه؛ ولكن [يجب أن يعرف] بأنّ هذا ليس الإسلام المعرَّف في القرآن والسنّة النبوية وسيرة أهل البيت.

***

 

المصادر الرئيسة لنظرية العلماء الأبرار في مقالات كديور:

1- القراءة المنسية: إعادة قراءة نظرية العلماء الأبرار، الفهم الأوّل لأصل الإمامة لدى الإسلام الشيعي (أيار 2006)

2- تصنيف العقائد الدينية (شباط 2007)

3- تأملات في مصادر العقائد الدينية (تشرين الثاني 2007)

4- العلماء الأبرار (كانون الثاني 2017)

الترجمات العربية:

1- محسن کدیور، القراءة المنسیة إعادة قراءة نظریة: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار وأربع مقالات أخری، تعریب وتقدیم وحواشی: د. سعد رستم، مؤسسة الانتشار العربی، بیروت، 2011، 215 صفحة. (أُنجِزَت هذه الترجمة وصدرت من دون عِلم المؤلف ومِن دون إذنه.)

2- قائمة المقالات المترجمة إلى العربية.

نقد آراء كديور في الإمامة:

  • الملف الخاص [في المجلات الفارسیة]:

1- دورية آئینه نقد، العدد 5: بازخوانی مفهوم امامت و تشیع، نقدها و واکنش‌ها، [مرایا النقد، إعادة قراءة مفهوم الإمامة والتشيّع، الانتقادات والردود] أيلول 2006، إعداد وتنظيم: رمضان‌ علي شوپایی جویباري، مكتب التبلیغات في حوزة قم العلمية، مكتب الإجابة على المسائل الدينية المستحدثة، ۲۳۵ صفحه.

2- نصوص معاصرة: فصلية تعنى بالفكر الديني المعاصر، تصدر عن مركز البحوث المعاصرة في بيروت، [حیدر حب‌الله (رئیس التحریر)]، السـنة الخامسة، «ملف العدد: الإمامة، قراءات جديدة ومنافحات عتيدة»؛ العـدد التاسع عشر، صيف2010،  ص11-123؛ العـدد العشرون، خريف2010، ص11-119.

ب. الکتب:

1- حسن علی‌پور وحید، مکتب در فرآیند نواندیشی‏: بازخوانی انتقادی نواندیشی محسن کدیور در حوزه شیعه‌شناسی، [المذهب في مشروع تحديث الفكر: إعادة قراءة نقدية لتحديث الفكر الديني لدى محسن كديور في مجال الدراسات الشيعية]، ممثلية مكتب القائد المعظّم [المرشد] في الجامعات، مكتب نشر معارف‏، قم، شباط 2016، 296 صفحة.

2- أحمد سلمان، وهم القراءة المنسیة: محاکمة علمیة لنظریة «علماء أبرار»، بیروت، دارالولاء، 2018، 229 صفحة.

3- الإمامة، قراءات جديدة ومنافحات عتيدة، سلسلة کتاب نصوص معاصرة، تألیف مجموعة من الباحثین، إعداد وتقديم: حيدر حبّ الله، الطبعة الاولی، دار روافد للطباعة والنشر والتوزیع، بيروت، لبنان؛ 2019، عدد الصفحات: 454.

ج. المقالات الفارسیة:

قائمة الانتقادات الموجهة لكتاب العلماء الأبرار الذي لم يصدر بعد.

 

6 أيلول 2019