“الإِلهُ الأخلاقيّ” وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس

د. محسن كديوَر *

ترجمة حسن الصرّاف

29/4/2024| الجزيرة|مقالة رأي| ثقافة

تتضمّن هذه المحاضرة [1] خمسة مباحث واستنتاجًا، على النحو الآتي: الله تعالى الإِله الأخلاقي، حرمة الحياة وقداستها، الحرب الدفاعية الأخلاقية الحرب الوحيدة المسموح بها في الإسلام، وصايا يهوه في الكتاب المقدّس لمواجهة أعداء بني إسرائيل، وتبريرات علماء اللاهوت اليهود والمسيحيين حول وصايا يهوه المعارضة للأخلاق.

المبحث الأول: الله، إِلهٌ أخلاقيّ

إنَّ الإِلهَ الذي يعرّفه القرآن، وهو بالطبع إله كلّ الأديان الإبراهيمية، هو إلهٌ ملتزم بالموازين الأخلاقية. ما أقصده من الموازين الأخلاقية هي الموازين نفسها التي فُطِرَت عليها طبيعة الإنسان، ويميل إليها الضمير الإنساني، ويدركها العقل البشري الذي وهبه الله تعالى.

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: ۳۰(، ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7-10(.

وبهذا فإنَّ الله تعالى خلق الإنسانَ أخلاقيًّا، وقد أمره بمراعاة الموازين الأخلاقية: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: ۹۰).

إذا كان الإله الذي يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الشرور والظلم غير ملتزم بهذه الموازين الأخلاقية فسيكون مشمولًا بهذه القاعدة الأخلاقية المحكمة التي أمضاها في القرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۝ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ (الصف: 2-3) فالقائل غير العامل [بِكلامِهِ] مذموم عقلًا ونقلًا، سواء أكان متمثلًا بالذات الربوبية أو بمخلوق مربوب. والقولُ المرافق لِلعمل كمالٌ، ومن المحال أن ألا تشتمل الذات الربوبية التي تمثل مجمع الكمالات كافة على مثل هذا الكمال.

إضافة إلى ذلك فإنَّ الأخلاق ليست أمرًا فوق العقل أو غير منسجم مع العقل حتّى نضطرّ إلى القول بوجود أخلاقَين: أخلاق المربوبين والمخلوقات، والأخلاق الربوبية. ومن الواضح أنَّ حدود البحث هي علم الإنسان، وإنَّ حدود الأخلاق أمرٌ يدركه عقلُ الإنسان، وخاصّة أنّه شأن يمكن تجويزه لـ«نوع الإنسان». أمّا ما يختصّ بالموارد والأشخاص، من قبيل الأمر الإِلهي الخاص إِلى إبراهيم خليل الرحمن بذبح ابنه على وجه الابتلاء والاختبار (الصافات: 101-109)، أو قتل الغلام على يد العبد الصالح (الخضر) في مواجهة النبيّ موسى (الكهف: 74-81) باعتبار ارتكاب الجريمة في المستقبل، كلّ ذلك خارج عن دائرة هذا البحث، وذلك لسببين: أولاً، لأن هذا الموضوع لا يمكن تعميمه على نوع الإنسان، وثانيًا: لأنه يتجاوز عقل الإنسان.[2]

من جملة الشواهد القرآنية الدالة على الإله الأخلاقي صدقُ الله وعدله وإلزام نفسه بالرحمة، وتبنّي قاعدتَي «مسؤولية كلّ فرد أمام ذنبه» و«قُبح العقاب بلا بيان». ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ (النساء: 122)، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (النساء: 40)، ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ (الأنعام: 54(، ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ (الإسراء: 15(.

ثمّة شواهد كثيرة في القرآن الكريم تدلّ على أخلاقية الإله، وهذه مجرّد نماذج منها.

المبحث الثاني: حرمة الحياة وقداستها

نوّه القرآن الكريم بحرمة الحياة وقداسة حياة الإنسان بوصفهما مبدئَين أصيلين، ولم يجوّز إزهاق روح الإنسان إلا بالحقّ (في ثلاثة موارد فقط: القصاص في جريمة القتل العمد، وعقوبة المحاربة والإفساد في الأرض: أي سلب الناس أمنَهم بقوّة السلاح، والقتل في الحرب الدفاعية).

﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا‎﴾ (الإسراء: ۳۳). وبالطبع القصاص في القتل المتعمد مجرّد خيار، فثمّة خيار ثان وهو أخذ الدية، والخيار الثالث هو العفو.

﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ (المائدة: 32).

تمثّل هذه الآية أوضح دليل قرآني على حرمة الحياة. إذ إنّها نصّت على أمرَين: أولًا، حُرمة القتل وإزهاق الروح إلا في موردَين، وبالطبع بحكم مِن محكمة صالحة: قتل النفس والإِفساد في الأَرض (وقد تمّ التعريف بذلك بدقّة في آيات أخرى وفي السنة المعتبرة وفي الفقه)، وثانيًا: أنَّ قتل البريء يعادل قتل الناس جميعًا، وإحياء فرد واحد يعادل إحياء الناس جميعًا. فالإِله الأخلاقيّ لم يجوّز قتل أيّ إنسان بريء.

يقول الإمام علي (ع) في عهده إلى مالك الأشتر النخعي المذكور في نهج البلاغة، الذي يُعدّ بعد القرآن الكريم أعظم وثيقة في الأخلاق السياسية في الإسلام على الإطلاق: «إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا. وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِيمَا تَسَافَكوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَيَنْقُلُهُ. وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، لأنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ [3] ».

المبحث الثالث: الحرب الدفاعية الأخلاقية، الحرب الوحيدة المسموح بها في الإسلام

إنَّ الجهادَ لمواجهة العدوّ الخارجي أو القتال في القرآن الكريم مقيّدٌ بقيدَين حتميَّين: أولًا، أن يكون دفاعيًّا وفي مواجهة تعدّي العدوّ على الدين أو على الأرواح والأعراض أو بلاد المسلمين، وثانيًا: أن تُراعى فيه الحدود الإلهية، وفي مقدمتها الأخلاق. إذن الحرب الهجومية [الابتدائية] بحجّة توسيع الإسلام، أو إدخال الناس إلى الإسلام عنوةً، أو التعدّي على بلاد الآخرين، أو التعرّض إلى الأرواح والأَعراض، كلّ ذلك محظورٌ بتصريح من القرآن الكريم. سأشير في هذا الصدد إلى بعض الأدلة القرآنية، وأقول “بعضها” لأنَّ الآيات القرآنية حول هذا الموضوع كثيرة.

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ‎(البقرة: ١٩٠)

لقتال في سبيل الله مقيَّدٌ بقيدَين واضحَين، أولًا: قتال مَن اعتدوا عليكم، أي الدفاع المشروع عن أنفسكم، وثانيًا: وجوب الالتزام بالعدالة والإنصاف، أي الإلزام بالأخلاق.

﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ (النساء: 75).

تحثّ هذه الآية على الجهاد الدفاعي، وتحديدًا الدفاع عن المستضعفين، وعمّن لا ملجأ لهم، ولا سيما الأطفال والنساء والرجال المدنيين والأبرياء الذين لا ناصر لهم سوى الله، وأصبحوا معرَّضين لظلم الظالمين. وقد اخترتُ هذه الآية ليتضح أنَّ القرآن الكريم قد أولى اهتمامًا بالغًا لمراعاة حقوق الأطفال والنساء والرجال الأبرياء وغير العسكريين، ولا سيما في سياق الحرب. حتّى إنّه أجاز الجهاد وخوض الحرب الدفاعية من أجل الدفاع عن حقّهم في الحياة والأمن.

أمّا الآية التي عُرِفَت بآية السيف [4]، وصارت منذ قرون عدّة ذريعةً ومبررًا لِنسبة «الحرب الهجومية [الابتدائية] من أجل نشر الإسلام» إلى القرآن، فهي الآية الخامسة من سورة التوبة: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (التوبة: 5).

أُلفِت انتباهَكم إلى تفسير أحد المتخصصين في الدراسات الإسلامية المعروفين، من المنتمين إلى التيار الداعي إلى إعادة النظر في أصول الإسلام [5]، وهو مايكل كوك (و: 1940) الأستاذ بجامعة برينستون، إذ قال في دراسته حول القرآن ضمن سلسلة «مقدّمة قصيرة جدًّا» (الصادرة عن جامعة أكسفورد: 2000، ص 34) في معرض تفسيره لهذه الآية:

«[بالاستناد إلى مفاد هذه الآية] عليكم قتل المشركين إلا إذا أسلموا. والمشرك هو من يجعل أحدًا أو شيئًا شريكًا مع الله. وتتسع هذه المفردة لِتشمل اليهود والمسيحيين أيضًا، بل إنها في الحقيقة تشمل غير المسلمين جميعًا [6]». يرى كوك أنَّ هذه الآية يمكن مقارنتها مع الآية 16 من الباب العشرين في سِفر التثنية (التي سأشير إليها لاحقًا). وبهذا فإنَّ هذا الرأي يجعل القرآنَ متعارضًا مع التسامح الديني الحديث في المجتمعات الغربية التي تحترم أتباع سائر الأديان بدلًا من قتلهم[7].

إنَّ مايكل كوك، شأنه شأن كثير من المستشرقين وحتّى بعض المسلمين، لم ينتبه إلى أنَّ «ال» في لفظة «المشركين» هي «ال العهدية»، ولا تشمل سوى المشركين الذين وصفتهم الآيات السابقة، خاصةً الآية الأولى من سورة التوبة، ولا تعني جميع المشركين، فضلًا عن اليهود والمسيح وغير المسلمين جميعًا. أي أنّها تعني مشركي مكّة في السنة الثامنة للهجرة الذين عاهدوا النبيَّ والمسلمين في صلح الحديبية، ونقضوا هذا العهد مرارًا وتكرارًا، وكانوا يقتلون المسلمين في أثناء العبادة وحتّى في نومهم. لقد فصّلتُ القولَ في نقدِ رأيٍ مشابهٍ تبنّاه أحدُ المسلمين الداعين إلى إعادة النظر في الإسلام، وذلك قبل ثلاث سنوات في سلسلة محاضرات «إشكالية الإسلام والسلطة» [8]، ولكن -للأسف- لم يؤدّ ذلك إلى تصحيح هذا الخطأ الفادح.

على أيّ حال، وردت المبادئ القرآنية حول مواجهة غير المسلمين في هاتَين الآيتَين وبصريح القول والعبارات: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ۝ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الممتحنة: 8-9].

إذن لا يمكن مقاتلة غير المسلمين الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يعملوا على إخراج المسلمين من ديارهم، ولا يمكن إخضاعهم للإسلام عنوةً؛ ليس هذا فحسب، بل يمكن التواصل معهم ومصادقتهم وإيجاد علاقات عادلة معهم. ولكن لا يجوز مصادقة ثلاث فئات من غير المسلمين: المعتدون على دين المسلمين، ومَن أخرجوا المسلمين من ديارهم، ومَن يساندون ويدعمون الفئتَين الأولى والثانية. إذ يجوز للمسلمين مقاتلة هذه الفئات الثلاث مع مراعاة الموازين الأخلاقية والعادلة.

وبعبارةٍ أخرى فإنَّ معيار القتال في الإسلام ليس الكفر والإيمان، بل الاعتداء وعدم الاعتداء، وغصب الأرض والديار وعدم غصبهما، والتعرّض لعقائد المسلمين ولأرواحهم وأعراضهم. وحتّى لو كان ثمّة معتدون تعرّضوا لدين المسلمين وديارهم وأرواحهم وأُطلق عليهم اصطلاح «الكافر الحربي» فلا يُقتل منهم في الحرب سوى الفئة المسلّحة والعسكرية من الذين اشتركوا في الاعتداء. أمّا نساؤهم وأطفالهم والمدنيون منهم والأبرياء فلا يجوز مطلقًا قتلهم أو ممارسة الضغط عليهم، فالقرآن والإسلام عمومًا لا يسمح بذلك.

المبحث الرابع: وصايا يهوه في الكتاب المقدّس لمواجهة أعداء بني إسرائيل

أركز البحث -بحسب الوقت المتاح- على وصايا يَهوه، إِله التوراة والعهد القديم، التي ترتبط بمواجهة الشعوب التي عُرِفَت بوصفها عدوةً لبني إسرائيل، وأقرأ الآيات المعنية مِن «الكتاب المقدّس».

(في الفصل/ الإصحاح السابع من سِفر التثنية) من التوراة والعهد القديم، ذُكِرَت سبعة شعوب فلسطينية تحت عنوان «الحتيون» و«الجرجاشيون» و«الأموريون» و«الكنعانيون» و«الفرزيون» و«الحويون» و«اليبوسيون»، بوصفها شعوبًا أكثر عددًا وأقوى من بني إسرائيل:[9]

«مَتَى أَتَى بِكَ الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا، وَطَرَدَ شُعُوبًا كَثِيرَةً مِنْ أَمَامِكَ: الْحِثِّيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، سَبْعَة شُعُوبٍ أَكْثَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكَ، 2. وَدَفَعَهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ أَمَامَكَ، وَضَرَبْتَهُمْ، فَإِنَّكَ تُحَرِّمُهُمْ. لاَ تَقْطَعْ لَهُمْ عَهْدًا، وَلاَ تُشْفِقْ عَلَيْهِمْ، 6. لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، 16. وَتَأْكُلُ كُلَّ الشُّعُوبِ الَّذِينَ الرَّبُّ إِلهُكَ يَدْفَعُ إِلَيْكَ. لاَ تُشْفِقْ عَيْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَعْبُدْ آلِهَتَهُمْ، لأَنَّ ذلِكَ شَرَكٌ لَكَ».

لقد ذُكِرَ في العهد القديم مرارًا وتكرارًا عَداءُ بني إسرائيل لهذه الشعوب الفلسطينية، فالآيات المذكورة عَدَّتْ بني إسرائيل شَعْبَ يَهُوَه المختار، وهو ما نجده في مواضع عدّة من العهد القديم. وقد ورد هذا الاختيار في العهد القديم، حيث عُدّ بنو إسرائيل شعبًا مقدّسًا، وابن الرب (يهوه)، وهم شعب متمايز يكون الإله معهم. وما يمكن الانتباه إليه في هذه الآيات هو أن الأوامر الإلهية فيها تقضي بهلاك جميع هذه الشعوب، وليس الجنود والمقاتلين في ساحة الحرب، وأن عدم الشفقة عليهم بأمر من يَهوه.

(سِفر التثنية، الفصل/ الإصحاح العشرون) من التوراة في العهد القديم:

«وَأَمَّا مُدُنُ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا فَلاَ تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَّا،[10] 17.  بَلْ تُحَرِّمُهَا تَحْرِيمًا: الْحِثِّيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْحِوِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ، كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ».

بناءً على وصايا يهوه فإنَّ كل كائن حيّ يتنفس بين هذه الشعوب الفلسطينية الستة التي عُدَّت عدوة لبني إسرائيل، يجب إبادته.

ورد (في سفر يشوع/ الإصحاح العاشر) من العهد القديم قصة هلاك شعوب مقيدة وأريحا ولبنة ولخيش وعجلون ودبير:

«فَضَرَبَ يَشُوعُ كُلَّ أَرْضِ الْجَبَلِ وَالْجَنُوبِ وَالسَّهْلِ وَالسُّفُوحِ وَكُلَّ مُلُوكِهَا. لَمْ يُبْقِ شَارِدًا، بَلْ حَرَّمَ كُلَّ نَسَمَةٍ كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ». «42. وَأَخَذَ يَشُوعُ جَمِيعَ أُولئِكَ الْمُلُوكِ وَأَرْضِهِمْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ حَارَبَ عَنْ إِسْرَائِيلَ».

في سِفر يشوع، “الإصحاح الحادي عشر” العهد القديم:

«ثُمَّ رَجَعَ يَشُوعُ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ وَأَخَذَ حَاصُورَ وَضَرَبَ مَلِكَهَا بِالسَّيْفِ، لأَنَّ حَاصُورَ كَانَتْ قَبْلًا رَأْسَ جَمِيعِ تِلْكَ الْمَمَالِكِ». «11. وَضَرَبُوا كُلَّ نَفْسٍ بِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمُوهُمْ، وَلَمْ تَبْقَ نَسَمَةٌ، وَأَحْرَقَ حَاصُورَ بِالنَّارِ». «12. فَأَخَذَ يَشُوعُ كُلَّ مُدُنِ أُولئِكَ الْمُلُوكِ وَجَمِيعَ مُلُوكِهَا وَضَرَبَهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ. حَرَّمَهُمْ كَمَا أَمَرَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ». «14. وَكُلُّ غَنِيمَةِ تِلْكَ الْمُدُنِ وَالْبَهَائِمِ نَهَبَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لأَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا الرِّجَالُ فَضَرَبُوهُمْ جَمِيعًا بِحَدِّ السَّيْفِ حَتَّى أَبَادُوهُمْ. لَمْ يُبْقُوا نَسَمَةً». «15. كَمَا أَمَرَ الرَّبُّ مُوسَى عَبْدَهُ هكَذَا أَمَرَ مُوسَى يَشُوعَ، وَهكَذَا فَعَلَ يَشُوعُ. لَمْ يُهْمِلْ شَيْئًا مِنْ كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ الرَّبُّ مُوسَى».

(سفر التثنية، الإصحاح الخامس والعشرون) من التوراة والعهد القديم:

«اُذْكُرْ مَا فَعَلَهُ بِكَ عَمَالِيقُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ خُرُوجِكَ مِنْ مِصْرَ». «18. كَيْفَ لاَقَاكَ فِي الطَّرِيقِ وَقَطَعَ مِنْ مُؤَخَّرِكَ كُلَّ الْمُسْتَضْعِفِينَ وَرَاءَكَ، وَأَنْتَ كَلِيلٌ وَمُتْعَبٌ، وَلَمْ يَخَفِ اللهَ». «19. فَمَتَى أَرَاحَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ جَمِيعِ أَعْدَائِكَ حَوْلَكَ فِي الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيبًا لِكَيْ تَمْتَلِكَهَا، تَمْحُو ذِكْرَ عَمَالِيقَ مِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ. لاَ تَنْسَ».

العماليق، بوصفهم العدوّ اللدود لبني إسرائيل، في سِفر الخروج، الإصحاح السابع عشر:

«فقال موسى لِيشوع: انتخب لنا رجالًا واخرج حارب عماليق. وغدًا أقف أنا على رأس التلة وعصا الله في يدي». «14. فقال الربّ لموسى: اكتب هذا تذكارًا في الكتاب، وضعه في مسامع يشوع. فإنّي سوف أمحو ذكر عماليق من تحت السماء». «15. فبنى موسى مذبحًا ودعا اسمه يهوه نسي». «16. وقال: إن اليد على كرسيّ الرب. للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور».

بالاستناد إلى هذا فإنَّ بني إسرائيل طبقًا لديانتهم مكلَّفون بأنْ لا ينسوا أبدًا عداءهم لعماليق، وأن يستمروا في محاربتهم للعمالقة إلى الأبد.

(سِفر صموئيل الأول، الإصحاح 15) العهد القديم:

«وَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: «إِيَّايَ أَرْسَلَ الرَّبُّ لِمَسْحِكَ مَلِكًا عَلَى شَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ. وَالآنَ فَاسْمَعْ صَوْتَ كَلاَمِ الرَّبِّ». «2. هكَذَا يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ: إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُ مَا عَمِلَ عَمَالِيقُ بِإِسْرَائِيلَ حِينَ وَقَفَ لَهُ فِي الطَّرِيقِ عِنْدَ صُعُودِهِ مِنْ مِصْرَ». «3. فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلًا وَامْرَأَةً، طِفْلًا وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلًا وَحِمَارًا». «[ملخص الآية 4 إلى 9]: فهزم شاول العماليق، وحرَّمَ جميع الشعب بحدّ السيف، وَعَفَا عَنْ أَجَاجَ وَعَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالثُّنْيَانِ وَالْخِرَافِ». «10. وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى صَمُوئِيلَ قَائِلًا: «11. نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكًا، لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي». فَاغْتَاظَ صَمُوئِيلُ وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ اللَّيْلَ كُلَّهُ». «12. فَبَكَّرَ صَمُوئِيلُ لِلِقَاءِ شَاوُلَ صَبَاحًا. فَأُخْبِرَ صَمُوئِيلُ وَقِيلَ لَهُ: «قَدْ جَاءَ شَاوُلُ إِلَى الْكَرْمَلِ، وَهُوَذَا قَدْ نَصَبَ لِنَفْسِهِ نَصَبًا وَدَارَ وَعَبَرَ وَنَزَلَ إِلَى الْجِلْجَالِ». «13. وَلَمَّا جَاءَ صَمُوئِيلُ إِلَى شَاوُلَ قَالَ لَهُ شَاوُلُ: «مُبَارَكٌ أَنْتَ لِلرَّبِّ. قَدْ أَقَمْتُ كَلاَمَ الرَّبِّ». «14. فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «وَمَا هُوَ صَوْتُ الْغَنَمِ هذَا فِي أُذُنَيَّ، وَصَوْتُ الْبَقَرِ الَّذِي أَنَا سَامِعٌ؟» «15. فَقَالَ شَاوُلُ: «مِنَ الْعَمَالِقَةِ، قَدْ أَتَوْا بِهَا، لأَنَّ الشَّعْبَ قَدْ عَفَا عَنْ خِيَارِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ لأَجْلِ الذَّبْحِ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. وَأَمَّا الْبَاقِي فَقَدْ حَرَّمْنَاهُ». «16. فَقَالَ صَمُوئِيلُ لِشَاوُلَ: «كُفَّ فَأُخْبِرَكَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ إِلَيَّ هذِهِ اللَّيْلَةَ». فَقَالَ لَهُ: «تَكَلَّمْ». «17. فَقَالَ صَمُوئِيلُ: «أَلَيْسَ إِذْ كُنْتَ صَغِيرًا فِي عَيْنَيْكَ صِرْتَ رَأْسَ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ وَمَسَحَكَ الرَّبُّ مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ» «18. وَأَرْسَلَكَ الرَّبُّ فِي طَرِيق وَقَالَ: اذْهَبْ وَحَرِّمِ الْخُطَاةَ عَمَالِيقَ وَحَارِبْهُمْ حَتَّى يَفْنَوْا؟» «19. فَلِمَاذَا لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ، بَلْ ثُرْتَ عَلَى الْغَنِيمَةِ وَعَمِلْتَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ؟» «20. فَقَالَ شَاوُلُ لِصَمُوئِيلَ: «إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ لِصَوْتِ الرَّبِّ وَذَهَبْتُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَرْسَلَنِي فِيهَا الرَّبُّ وَأَتَيْتُ بِأَجَاجَ مَلِكِ عَمَالِيقَ وَحَرَّمْتُ عَمَالِيقَ».

نجد هنا أن شاول يذكر في تبريره أنّ ما لم يُقتَل احتفظ به ليكون قربانًا من أجل يهوه، ولكن صموئيل لم يقبل تبريره، ويرى أن تقديم الأضاحي على حساب التمرد على أوامر الرب غير مقبول، ويقول لشاول إنَّ الرب نحّاك عن الملك لأنّك تركت أوامره. (مخلص الآيات 21 إلى 23)، ثم يعرب شاول عن ندمه ويطلب العفو، ولكن صموئيل لا يقبل ذلك ويؤكد على تنحيه عن الملك بأمر من الإله. (ملخص الآيات 14-26). «27. وَدَارَ صَمُوئِيلُ لِيَمْضِيَ، فَأَمْسَكَ بِذَيْلِ جُبَّتِهِ فَانْمَزَقَ». «28. فَقَالَ لَهُ صَمُوئِيلُ: يُمَزِّقُ الرَّبُّ مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ عَنْكَ الْيَوْمَ وَيُعْطِيهَا لِصَاحِبِكَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.» «29. وَأَيْضًا نَصِيحُ إِسْرَائِيلَ لاَ يَكْذِبُ وَلاَ يَنْدَمُ، لأَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانًا لِيَنْدَمَ». وقد سُمِحَ لشاول أن يعبد الإله، فَقَطَعَ صَمُوئِيلُ أَجَاجَ [ملك العماليق] أَمَامَ الرَّبِّ فِي الْجِلْجَالِ». (ملخص الآيات 30 – 33) «35. وَلَمْ يَعُدْ صَمُوئِيلُ لِرُؤْيَةِ شَاوُلَ إِلَى يَوْمِ مَوْتِهِ، لأَنَّ صَمُوئِيلَ نَاحَ عَلَى شَاوُلَ. وَالرَّبُّ نَدِمَ لأَنَّهُ مَلَّكَ شَاوُلَ عَلَى إِسْرَائِيلَ».

ما يمكن استنتاجه من الآيات المتقدّمة من الكتاب المقدّس:

أولًا: لقد أمر الإلهُ عن طريق موسى بوساطة يشوع وصموئيل وشاول بالحُكمِ على أعداء بني إسرائيل، ولا سيما العماليق، بقتل كلّ كائن حيّ من رجال ونساء وأطفال ورُضَّع، وكافة الدواب والماشية مِن بقر وغنم وإِبل وبغال وحمير، وقد نُفّذ هذا الأمر بحذافيره.

ثانيًا: إنَّ شاول الذي لم يقتل بعض الدواب والماشية الجيدة عُزِلَ عن الملك بأمرٍ من الإله يهوه، لأنّه لم ينفذ أوامر الإبادة بدقّة.

ثالثًا: الجريمة التي ارتكبها العماليق هي أنّهم ناصبوا بني إسرائيل العداء عند دخولهم مصر.

رابعًا: عداء العماليق لبني إسرائيل يجب ألا يُنسى، وإن «الحرب المقدّسة» ضدّهم لا تنتهي بهزيمة العماليق، ويجب أن تستمر جيلًا بعد جيل وبحسب ما أمر به موسى.

بحسب ما جاء في الموسوعة اليهودية (جوديكا) فإنَّ اسم العماليق (العدو الرئيس لبني إسرائيل) لم يرد خارج الكتاب المقدّس؛ وطبقًا لأدبيات الحاخامات اليهود فإنَّ السبب في الاستذكار غير الاعتيادي للعماليق هو الآتي: «عماليق – العدو الأول الذي هاجم شعب إسرائيل بعد خروجهم من مصر، ومن الغباء العطف على من يبذل قصارى جهده لإبادة إسرائيل، ويحرم ذلك. وإن هجوم العماليق على بني إسرائيل يحفّز الآخرين أيضًا للهجوم على إسرائيل. وكلّ الحوادث المؤلمة التي عانت منها إسرائيل هي النتيجة المباشرة لعداء العماليق. وإنَّ هذا الأمر المذكور في الكتاب المقدّس (أي الاستذكار الدائم لعداء العماليق) قد ترسّخ بشدّة وعلى مرّ الأزمان في التعاليم اليهودية، إلى درجة أن أصبح كثير من أعداء إسرائيل المهمين يُعبَّر عنهم بنحو مباشر بأبناء العماليق[11]. نهاية الاقتباس من موسوعة جوديكا.

بعبارةٍ أخرى العماليق «عنوانٌ رمزيّ للأعداء اللدودين لبني إسرائيل ولقوم اليهود»، فهم يطلقون «العماليق» على كلّ من يعاديهم، ومعنى ذلك أنَّ هؤلاء مهدوري الدم، ويجب إبادتهم قاطبةً عن وجه الأرض. وكلّ من أُطلِقَ عليه اسم «العماليق» لا ينبغي أن يكون في مأمن، بمن فيهم النساء والأطفال والرضَّع والشيوخ والمدنيين، وكذلك الحيوانات. الأمر الأهم هو تحقيق الأمن لِشعب الله المختار والحفاظ على أرضهم! وكلّ من يشكّل تهديدًا لهذا الشعب المختار ولهذه الأرض المقدّسة، خاصةً الفلسطينيين الذين يمارسون نضالًا مسلّحًا من أجل استرجاع أرضهم، وكلّ من يدعمهم في هذا النضال، كلّ هؤلاء من العماليق، ولا يتمتعون بأيّة حقوق، سواء أكانت من حقوق الإنسان، أو من القانون الدولي الإنساني، أو من حقوق النساء أو حقوق الأطفال، وحتّى حقوق الحيوانات. فالعماليق يكادون أن لا يكونوا من البشر ولا من الحيوانات. وإنَّ هذا «الحقّ المطلَق في الدفاع» عن الشعب المختار وعن الأرض المقدّسة والموعودة قد منحه الله -يَهُوه- إياهم، وذكره نصًّا في الكتاب المقدّس!

المبحث الخامس: تبريرات اللاهوتيين اليهود والمسيحيين لوصايا يَهوه المعارضة للأخلاق

تداول فلاسفة الدين والأخلاق واللاهوتيين اليهود والمسيحيين في العقود الأخيرة مبحثًا على هامش هذا العنوان: «معضلة الوصايا الإلهية التي تبدو مُبغَضة أخلاقيًّا» [12]. تمثّل هذه الوصايا المذكورة في الكتاب المقدّس انتهاكًا صريحًا لحرمة الحياة ولحقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني ولحقوق الأطفال وكذلك حقوق الحيوان. تجعل هذه المعضلة أو الإشكالية الفلاسفةَ وعلماء اللاهوت في مواجهة خيارَين، عليهم اختيار أحدهما أو كليهما: أولًا، القبول بوجود أخطاء أخلاقية جادّة في الكتاب المقدّس، وثانيًا: القبول بكون إِله الكتاب المقدّس غير أخلاقيّ. السؤال الجاد المعروض في هذا الصدد يقول: ما المبرر المعقول لهذه الوصايا الملأى بالإشكاليات في الكتاب المقدّس؟ في كتاب «الشرّ الإلهي؟ الشخصية الأخلاقية لإله إبراهيم» [13] تُقسَّم هذه التبريرات على ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: قبول المعنى الظاهري لوصايا الكتاب المقدّس، ومحاولة بيان أنَّ هذه الوصايا مقبولة تمامًا كما هي (وبمعناها الظاهري). وهذا اتجاهٌ قد تبنّاه اللاهوتي المبرّز المعاصر ريتشارد سوينبورن (و: 1934) في مقاله «ما معنى العهد القديم؟» [14]، حيث صرّح بأن الله «يحقّ له أن يأمر بني إسرائيل ليقتلوا الكنعانيين». وإذا كان الله يأمر بني إسرائيل بإبادة الكنعانيين فهؤلاء مكلَّفون بفعل ذلك.

الاتجاه الثاني: يبحث عن وجود احتمالات وأدلّة مقبولة غير الموارد المذكورة في الكتاب المقدّس. تتبنى هذا الاتجاه السيدة إلينور ستامب (و: 1947) في مقالها «مشكلة الشر وتاريخ الشعوب: فكّر في العماليق» [15]. ترى ستامب أنَّ لله «أدلة أخلاقية كافية ليسمح بآلام الشعوب والحيوانات»، وهذا ما يشتمل على منافع في حياتهم، ولا يلزمنا أن نكون قلقين بالنسبة لآلام العماليق، فهذه المصائب والمحن من أجل تأمين مصالحهم، وشاء اللهُ أن يعاقب الأبناء بسبب معاصي الآباء.

الاتجاه الثالث: ينطلق من التشكيك [16]، مستدلًا بأنَّ الناسَ قد لا يسعهم أن يعلموا بالقدر الكافي ليقتنعوا بما تتضمنه هذه النصوص. يتبنّى هذا الاتجاه الفيلسوف وعالم اللاهوت المسيحي المعاصر «ألفين بلانتينغا» (و: 1932) في مقاله المعنون بـ«تعليقات على الآيات الشيطانية: الفوضى الأخلاقية في النص المقدّس» [17]. يرى بلانتينغا أنَّ كل فعل يصدر عن الله يجب أن يكون وراءه دليل حسن، حتّى لو كنا -نحن البشر- غير قادرين على استيعابه. [ولكن] إذا كان الله حسنًا مطلقًا فإنَّ نصوص الكتاب المقدّس في بعض المواضع تُعرّفه بنحو غير صحيح.

كلّ هذه الاتجاهات الثلاثة تدافع عن إِلهِ الكتاب المقدّس الذي أصدر مثل هذه الوصايا والأوامر. الاتجاهان الأول والثاني لم يقتصرا على ذلك، بل بررا منطق الكتاب المقدّس، والاتجاه الثالث اقتصر على عرض احتمال وجود سوء الفهم في الكتاب المقدس حول الوصايا الإلهية. ولكن يبدو أنه لا ينبغي اعتماد منطق التشكيك واللاهوت التشكيكي في الموضع الذي نمتلك فيه دليلًا قطعيًّا على بطلانه، فقتل الأبرياء، ولا سيما الأطفال والرضّع، وعدّ ذلك أمرًا إلهيًّا سرمديًّا إلى الأبد، لا يمكن تبريره في أيّ منطق، وإنْ كان ذلك باستخدام اللاوهوت التشكيكي.

الاستنتاج

إنَّ الله تعالى -الإله الذي يعرّفه القرآن الكريم- هو إله أخلاقيّ لم يأمر مطلقًا بقتل الأبرياء، فإزهاق روح الإنسان البريء يعادل قتل الناس جميعًا، وإنَّ قتل إنسان بريء واحد يهتزّ له عرش الرحمن. ولم يُجوَّز الإعدام إلا في القصاص وفي الإفساد في الأرض (الذي لا يعني سوى سلب أمن النّاس بقوّة السلاح وبطريقة العصابات الإجرامية والبلطجة). وإنَّ القتال والجهاد في القرآن لا يجوز إلا للدفاع ومع مراعاة الموازين الأخلاقية. وإن الجهاد بوصفه حربًا مقدّسة من أجل نشر الإسلام أو إخضاع أتباع العقائد الأخرى للإسلام عنوةً ليس له أي مستند قرآني، وأي فهم آخر غير هذا لكلام الله ناجم عن تفسير خاطئ لآيات القرآن. وإنَّ قتل أو إيذاء غير العسكريين من نساء وأطفال وشيوخ ورجال مدنيين -حتّى لو كانوا من أُسَر الكفّار الحربيين- يحرّمه الإسلام ويعدّه من الكبائر وبمثابة «قتل النفس المحترمة». إذ لا يمكن قتل أيّ أحد لمجرد كونه غير مسلِم أو لا يُسْلِم.

وإله الكتاب المقدّس (تحديدا التوراة في سِفر التثنية والعهد القديم في سِفر يشوع وصموئيل الأول) يُهوه، إلهٌ عنيف وغير ملتزم بالموازين الأخلاقية، إذ أَمَرَ بقتل الأبرياء، وحتّى الرضَّع والأطفال والنساء والحيوانات وأيّ كائن حيّ يتنفّس من أفراد الشعوب المعادية لبني إسرائيل التي عُدّت عدوةً ليَهوه. وإنَّ هذه الوصايا قد بلغها موسى إلى يشوع وصموئيل، وقد أبلغها صموئيل إلى شاول ونفذها الأخير. لم يسمح يهوه بالعطف والتسامح مع العماليق والكنعانيين وسائر الشعوب الفلسطينية المعادية لبني إسرائيل. والكتاب المقدس حافلٌ بعنف مقدّس وغير أخلاقيّ ضدّ أعداء بني إسرائيل. والعماليق لم يُعرّف بهم في خارج الكتاب المقدس. وإن بني إسرائيل بحسب دينهم مكلَّفون باستذكار عدائهم وقتالهم للعماليق على نحو دائم وأبدي.

أقرّ علماء اللاهوت المعاصرون والمفسرون بهذا الجزء من الكتاب المقدّس، فتبنّاه بعضهم بحسب تفسير ظاهري للعهد القديم، وأكّد بعضهم صحّة ما ورد في العهد القديم في ضوء متبنيات أخرى، وفي أفضل الحالات تبنّى آخرون فكرة وجود سوء الفهم في تعابير الكتاب المقدّس حول الوصايا الإلهية. ولكن لم يصرّح أيٌّ منهم بكون إله العهد القديم -يهوه- غير أخلاقيّ، ولم يقرّوا باشتمال الكتاب المقدّس على أخطاء أخلاقية جادّة.

وبحسب ما ورد في الموسوعة اليهودية (جوديكا) فإنَّ أيّ عدوّ لدود لإسرائيل يُعد من العماليق، وببيان آخر اتسع مفهوم «العماليق» وشمل «كلّ من يعادينا». فمجرد إطلاق «العماليق» على فئة أو شعب ما يعني إمكانية إبادة هؤلاء مطلقًا ومن دون أية قيود، بمن فيهم النساء والرجال والشيوخ والأطفال والرضّع والحيوانات، كلّ ذلك من أجل تحقيق أمن شعب يهوه المختار واستقرارهم في أرض الميعاد المقدّسة. بناءً على هذه المتبنيات والوصايا تصبح عمليات الإبادة [18]  والمذابح [19]  أمرًا مقدسًا وتنفيذًا لوصايا يَهوه، ومن ثمَّ ليس ثمّة حاجة إلى الالتزام بحقوق الإنسان وبقانون الإنسان الدولي وبحقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الحيوان؛ ذلك لأن مثل هذه الأعمال «إبادة جماعية مقدّسة» [20]. ومن الواضح أن التبرير الديني ما هو إلا غطاء لمثل هذه الجرائم.

من شأن هذا البحث أن يتسع كثيرًا، وأرجو أن يتاح المجال لذلك.

اللهمَّ اجعل عواقب أمورنا خيرًا.

20 رمضان 1445 – 31 آذار/مارس 2024

الهوامش:

[1] الدراسة الراهنة مقتبسة من بعض محاضراتي الجامعية في الفصل الدراسي الأخير في مادتَي «فهم القرآن» و«مشكلة الشر» وقد ألقيتُها باللغة الإنجليزية (في يوم 21 مارس/آذار [2024]) في مركز حياة المسلم بجامعة ديوك والآن أعرضها بتحرير ثان ومع شيء من الإضافات.

[2] لِلمزيد يُنظر: نصّ محاضرة “چالش إسلام وقدرت” [إشكالية الإِسلام والسلطة]، المحاضرة الرابعة، في 17 فبراير/شباط 2021.

[3] نهج البلاغة، تحقيق: صبحي صالح، ص 443، الكتاب: 53.

[4] لم ترد مفردة «السيف» في هذه الآية، ولا حتّى في القرآن الكريم كلّه!

[5] على أقل تقدير حتّى فترة تأليف كتابه المذكور.

[6] Cook, Michele. The Koran: A Very Short Introduction. Oxford and New York: Oxford University Press, 2000, p. 34.

[7] Ibid. p. 33.

[8] استغرقت هذه السلسلة من المحاضرات [بالفارسية] خمسة عشرة جلسة، بدءًا من 10 يناير/كانون الثاني 2021 إلى 11 أغسطس/آب 2021. للاطلاع على ملخص هذه السلسلة يُنظر: «چکیده چالش إسلام وقدرت» [ملخص إشكالية الإسلام والسلطة]، 8 مارس/آذار 2024.

[9] لترجمة نصوص الكتاب المقدّس إلى العربية في هذا المقال اعتُمدت النسخة المنشورة في موقع (الأنبا تكلاهيمانوت القبطي الأرثوذكسي):   https://st-takla.org/P-1_.html

[10] إنّها الآية التوراتية التي عدّها مايكل كوك –خطأً- معادلة للآية الخامسة من سورة التوبة، وقد ذكرتُ آنفًا أني سأشير إليها.

[11] The Encyclopedia Judaica, 2nd edition, 2:28-31, “Amalekites”.

[12] Wesley Morriston, “The problem of apparently morally abhorrent divine commands” in McBrayer, Justin P., and Daniel Howard-Snyder (editors). The Blackwell Companion to the Problem of Evil. Chichester, West Sussex: Wiley-Blackwell, 2014, pp.  144-159.

[13] Bergmann, M., Murray, M.J., and Rea, M.C. (eds) (2011). Divine Evil? The Moral Character of the God of Abraham. Oxford: Oxford University Press.

[14] Swinburne, R. (2011). “What Does the Old Testament Mean?” In Divine Evil? The Moral Character of the God of Abraham, edited by M. Bergmann, M.J. Murray, and M.C. Rea, pp. 209–225. Oxford: Oxford University Press.

[15] Stump, E. (2011). “The Problem of Evil and the History of Peoples: Think Amalek”. In Divine Evil? The Moral Character of the God of Abraham, edited by M. Bergmann, Michael J. Murray, and M.C. Rea, pp. 179–۱۹۷. Oxford: Oxford University Press.

[16] Skeptical Theism

[17] Plantinga, A. (2011). “Comments on “Satanic Verses: Moral Chaos” in Holy Writ.” In Divine Evil? The Moral Character of the God of Abraham, edited by M. Bergmann, M.J. Murray, and M.C. Rea, pp. 109–۱۱۴. Oxford: Oxford University Press.

[18] Genocide

[19] Massacre

[20] “Divine Genocide”

  • الكاتب والأكاديمي الإيراني محسن كديوَر – أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ديوك

المصدر: الجزيرة