الإمام الحسين من وجهةِ نظرٍ أخرى

قاعدة أم استثناء؟

يُعدّ الإمام الحسين بن علي (عليهما السّلام) سيّد أحرار العالم حقّاً. وإن ذكرى استشهاده مع أهل بيته وأصحابه الأوفياء في عاشوراء سنة 61هـ في كربلاء هي فرصة لاستلهام دروسٍ في الحريّة وفضائل إنسانية سامية في المدرسة الإسلامية.

أتوخّى في هذا المقال بلورة الإجابة على ثلاثة أسئلة أساسية: هل الإمام الحسين يمثّل قاعدة بين أئمة أهل البيت أم كان استثناءً؟ وهل أوصى علماء الشيعة بالسير على النهج الحسيني في نمط الحياة والتوجّه العلمي؟ وما الأثر العلمي والعملي الذي تتركه المجالس الحسينية على الشيعة؟

للإجابة على هذه الأسئلة الثلاث أفكك بين ثلاثة قراءات للمنجَز العظيم الذي قام به الإمام الحسين؛ وأشير  باختصار  إلى مَن يمثّل هذه القراءات. من شأن هذا البحث أن يتوسّع كثيراً، ولكن أكتفي هنا بالإشارة إلى ر ؤوس الأقلام.

القراءة التقليدية

تقوم القراءة السائدة والتلقّي التقليدي لقضيّة عاشوراء وكربلاء والإمام الحسين على خمسة أركان في أقلّ التقادير:

أولاً: المهمّة الخاصّة والشخصية التي حملها الإمام الحسين لبلوغ الشهادة مع أهل بيته وأصحابه، وسبي النساء والأطفال الذين رافقوه في القافلة.

ثانياً: مقتل سبط النبيّ وأصحابه بنحوٍ فجيع ومأساوي في كربلاء على يد أشقياء الدولة الأموية الحاكمة يمثّل «أكثر المحاور مركزيةً في الهويّة الشيعية»، وإنه أهم حدثٍ ديني ومذهبي على الإطلاق. ويُعد في وقتنا الراهن الأيقونة الأبرز للمذهب الشيعي، وإن أكبر التجمّعات الدينية تُقام في الأيّام المتعلّقة بالإمام الحسين، وبات ذلك معروفاً لدى المسلمين من المذاهب الأخرى، ولغير المسلمين أيضاً.

ثالثاً: المذهب الشيعي «محزون» منذ شهادة الإمام الحسين وحتّى آخر الزّمان. ولا تصحّ أيَّ مناسبة، بما فيها الأعياد الدينية والعُرفية لدى الشيعة من دون زيارة الإمام الحسين واستذكار أحداث كربلاء المؤلمة في سنة 61هـ. يرافق هذا الحُزن [المستمر] البكاء والإبكاء والتباكي، ولذلك يلازم إحياء ذكرى الحسين إقامة المأتم والحزن والبكاء. (المأتَم والحزن والبكاء العلني والمستمر.)

رابعاً: تأبين الإمام الحسين بقراءة «المقتَل» وكتاب «روضة الشهداء» للملا حسين واعظ الكاشفي السبزواري (ت: 910هـ)، وما اختُصِرَ تعبيره لاحقاً بقراءة الروضة. [الروضة: التعبير الدارج عن مجلس العزاء الحسيني في المجتمع الإيراني] المقتَل هو كتابٌ ترد فيه تفاصيل ضحايا كربلاء باللغة العربية، مثل مقتل أبي مخنف. والروضة هي باللغة الفارسية الدارجة والتركية أو الأردو وأمثالها. ومن هنا تحوّلت قراءة المقتَل أو قراءة الروضة إلى مهنةٍ رائجة، والتي جرى التعبير عنها بقارئ التعزية والنَّــوْح أو المدّاح [في الفارسية الدارجة]، و[الرادود في العربية الدارجة]. تركّز هذه المهنة على تفاصيل ظلامة شهداء كربلاء وأسراها، وقساوة المجرمين والجُناة الغادرين في تلك الواقعة.

خامساً: مجالس عزاء الحسين هي «مجالس لنَيل الثواب». حيث يأتي المعزّون ليخففوا عن أعباء ذنوبهم بذرف قطرةٍ من الدَّمع، ولينالوا الثواب. وقراءة الروضة وسرد المصاب والرثاء كلّما كان أكثر شجوناً كلّما تحصّلت أدمع أكثر، ويزيد الاقبال عليها، وتروج بضاعتها. وإن هذه البضاعة المعروضة لا تعوّل كثيراً على «وثاقة» ما يُنقَل. فبصورةٍ عامّة لا يكون «تعزيز المعرفة الدينية» هدف المتحدّث، ولا مطلب المستمع. الكل يسعى للثواب من أجل غسل الذنوب وتخفيف الآلام.

هذا التلقّي هو من أرسخ العناصر المتجذرة في الثقافة الشيعية؛ وإن عمقها يبلغ حدّاً يجعل المشاركة في العزاء لا تقتصر على فئة المتدينين، بل حتّى غير الملتزمين بالواجبات وغير المتورعين عن المحرّمات الدينية يكفّون عن ممارسة الفسق والفجور في يوم عاشوراء احتراماً لسيّد الأحرار، ويحضرون في مجالس العزاء الحسيني، ويلطمون على صدورهم ويذرفون الدمع. فهم يتدينون في يومَين من أيّام السنة في أفضل الأحوال: في يوم عاشوراء احتراماً للإمام الحسين، وفي يوم 21 من شهر رمضان احتراماً للإمام علي. وهذا نمطٌ من «التديّن المتدنّي» السائد في مجتمعنا.

القراءة الثورية

برز في إيران في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين تيّارٌ آخر، يمكن أن نسمّيه بـ«التشيّع المناضِل»، متميّزاً بالسّمات الآتية:

أوّلاً: يسلّط الضوء على البُعد المعرفي في حركة الإمام الحسين، ليتحوّل مجلس «نَيل الثواب» إلى مجلسٍ «لتعلّم المعارف الحسينية». وإن الخطيب بدلاً عن تكرار المكررات يعمل على تحديد عنوان واضح لمحاضرته، وينشر نصّ محاضرته لاحقاً. وحين يُنشَر نصّ المحاضرة على الخطيب (وليس قارئ الروضة والمقتل أو النّاعي أو الرادود) أن يوثّق كلامه، وأن يعتني بوثاقة ما ينقل. ومع هذا التيّار تمحورت المحاضرات في البحث عن جذور القضايا في التاريخ الإسلامي بدلاً عن الاقتصار على قراءة المقتل. تُعد سلسلة كتب «گفتار ماه = خطاب الشّهر» التي صدرت خلال الفترة الممتدة بين 1960 و1962 نموذجاً بارزاً من نتاجات هذه القراءة. ومن أبرز الخطباء الذين اعتمدوا مثل هذه القراءة والطريقة هم: مرتضى مطهري، ومحمّد إبراهيم آيتي، ومحمود طالقاني [الذي تمرّ  في هذه الأيام الذكرى السنوية الأربعين على وفاته]، وعلي كلزاده غفوري، ومحمّد بهشتىي، ومرتضى جزائري، وموسى الصّدر، وخليل كمره اي، ومحمّد باقر سبزواري، ومرتضى شبستري، وحسين مزيني ومحمّد تقي جعفري.

ثانياً: «التحليل العقلاني» بدلاً عن تهييج العواطف والأحاسيس. إن الخطيب والمستمع [في هذه القراءة] يأتون لاستكشاف وتعلّم قضايا جديدة في مدرسة الإمام الحسين، ليأخذوا بها في حياتهم الفردية والاجتماعية. وفي هذه القراءة لا وجود للتوجّه الشخصي والمهمّة الخاصّة التي حملها الإمام الحسين لبلوغ الشهادة وسبي أهل بيته. وبدلاً عن ذلك تتمحور المحاضرات حول «منطق الحركة الحسينية»، وتُبَرَّز «المطالبات الاجتماعية». وبموجب هذه القراءة أيضاً يُعدّ الحسين مصلحاً اجتماعياً نهض لـ«إصلاح» الانحراف في أمّة جدّه، وليبيّن «معالم الدّين» للمسلمين.

ثالثاً: أصبح عمل الإمام الحسين في هذه القراءة يُعبَّر عنه بنحوٍ تدريجي وبحسب الظرف الزماني بـ«الثورة أو القيام أو النهضة أو الملحمة الحسينية». وصار الإمام الحسين ثورياً ومتمرّداً على ظلم الزمان، ومناهضاً للجور، وخالقاً لمحلمة كربلاء. وقد صيغَت شعارات مثل «إن الحياة عقيدة وجهاد» و«كلّ يومٍ عاشوراء وكلّ أرضٍ كربلاء» (التي لم تُبنَ على أيّ أساس)، واعتُمدَت مقولة «لكم فيَّ أسوة» المنسوبة للإمام الحسين. حتّى أصبح سيّد الشهداء قدوةً لإحداث الثورة ضدّ الظلم، وأصبحت زينب رسولةً لهؤلاء الثوريين المضرّجين بالدماء. وإن العبارة الشهيرة التي أطلقها علي شريعتي تعد شاهداً صادقاً على هذه القراءة: «اولئك الذين مضوا قاموا بعملٍ حسيني، وعلى من بقي أن يقوم بعملٍ زينبي، وإلا سيكون يزيدياً.»! فالأمر لا يخرج عن اثنين، إمّا الشهادة أو تبليغ رسالة الشهداء. وإن لم تفعل أيّ من هذين ستكون عوناً للظلمة!

رابعاً: وفي نهايات الستينيات، ولا سيما في بداية السبعينيات تبلورت لحركة الإمام الحسين قضيّة آخر غير الثورة، ألا وهي «الحكومة الإسلامية». تستمدّ هذه الفكرة رؤيتها من تلك المرحلة في سيرة الإمام الحسين، حين استجاب لدعوة أهل الكوفة والبصرة لإقامة العدل وحكومة الحق، وأرسل مسلم بن عقيل ليطّلع على الأوضاع. وبناءً على ذلك بُرّزَت فكرة «تأسيس الحكومة الإسلامية» على أنّها المطلب الرئيس الذي نهض من أجله ذلك «الشهيد الخالد»، ليكون أنموذجاً دائمياً «للأمّة والإمامة»؛ وهذا أمرٌ لا تسبقه فكرة مثيلة.

خامساً: أصبح «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في صدر تعاليم سيّد الشهداء، وأُحيَت هذه الفقرة المحذوفة من الكتب الفقهية. فقد كانت القراءة التقليدية تضع شروطاً للقيام بهذه الفريضة الإسلامية كعدم المفسدة وفقدان الضرر والحرج على الآمِر بالمعروف والنّاهي عن المنكر. ولكن القراءة الجديدة ذهبت إلى أن الحرج أو الضرر، وإنْ كان ضرراً في الأنفس، لا يمنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص القضايا التي يرتهن بها مصير الإسلام والمسلمين. وإن بذل الروح والمال لتحقيق بعض المستويات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون جائزاً فحسب، بل يصبح واجباً. وإذا كان في سكوت علماء الدين تعزيزٌ للباطل فإنّه سكوت مُحرَّم، إذ يجب عليهم الاعتراض وإبراز الكُره للظالم، وإنْ كان ذلك غير مؤثّر في رفع ظلمه. (تحرير الوسيلة للسيّد الخميني) وجرّاء هذا التلّقي تحقق الانتصار غير المتوقَّع لثورةِ شباط 1979 في إيران.

إن «الإسلام السياسي» هو ثمرة هذه النظرة للإمام الحسين ولقضايا كربلاء وعاشوراء والإسلام والتشيّع. لقد عرض الإسلام الثوري قراءته الخاصّة عن الإمام الحسين بصفته قدوة الثورة والنضال خلال العقود الخمسة الأخيرة في إيران. ومن أشهر الكتب التي تعرض هذه القراءة على الرغم من فوارقها هي: «الحسين وارث آدم» (المجلد رقم 19 من مجموعة أعمال علي شريعتي)، و«راه حسين» [طريق الحسين] لأحمد رضائي، (أحد المنتسبين الأوائل لكوادر منظمة مجاهدي خلق الإيرانية)، و«شهيد جاويد» [الشهيد الخالد] لنعمة الله صالحي نجف آبادي، وإلى حدّ ما كتاب «حماسه حسينى» [الملحمة الحسينية] لمرتضى مطهري.

القراءة التاريخية النقدية

في القراءة الثالثة لقضايا عاشوراء وكربلاء والإمام الحسين لا أهميّة لنيل الثواب ولا أصل لمبدأ النضال. إن الرؤى في هذه القراءة تشمل منظومة المعارف الإسلامية والتعاليم الشيعية برمّتها، بحثاً عن المكانة الواقعية للإمام الحسين. وفيما يلي عرض مقتضَب لأساسيات هذه القراءة:

أوّلاً: إن قرار الإمام الحسين في عدم البيعة مع السلطان الجائر، ومصادرته لمتاع القافلة الحكومية، وسعيه لتأسيس حكومةٍ في المدينة تكون مستقلة عَمَّن يزعم خلافة المسلمين وبدعوةٍ من أهل الكوفة والبصرة، وذهابه في نهاية المطاف إلى خيار الحرب والاستشهاد، وأسر أهل بيته عند مواجهته جيش الخليفة الذي خيّره بين ذلّة البيعة مع الجائر والموت، كلّ ذلك لا يُعدّ «قاعدة» في تاريخ الأئمّة، بل إنه «استثناء». ويمكننا أن نزعم بأن الاصطفاف بين يزيد بن معاوية (26_64هـ) _بصفته مظهراً للقساوة والرجس_ والحسين بن علي (4_61هـ) _بصفته مظهراً للفضائل والكمال الإنساني والخصال الفريدة_ لم يحدث في تاريخ أيّ واحدٍ من الأئمّة، وهذا زعمٌ لا يمكن إبطاله. إن الأئمة بحسب النظرة التقليدية كلّهم نورٌ واحد؛ فالتباين إذن يعود لمجرّد الظروف الزمانية. ويصعب كثيراً أن نُثبِت بأن الخلفاء المعاصرين لسائر الأئمّة كانوا يمتلكون الحدّ الأدنى من شروط الحاكم العادل. إذا كان الإمام علي (و: 23 ق.هـ _ ت: 40هـ) بايع الخلفاء الثلاث الأوائل «وفي عينه القذى وفي حلقه الشجى»، وإذا كان الإمام الحسن بن علي (3_50هـ) أبرم مع معاوية بن أبي سفيان _وهو أوّل من حوّل الخلافة إلى ملكية_ معاهدةً للصلح مُكرهاً ومضطرّاً، وإذا كان الإمام علي بن الحسين زين العابدين (38_ 95هـ) لا يجد ملجئاً من مضايقات عصره سوى الدعاء والمناجاة، فإنّ الفترة الطويلة نسبياً التي عاشها كلّ من الإمامَين محمّد الباقر (57_114هـ) وجعفر الصادق (83_148هـ) والتي تزامنت مع الفترة الفاصلة بين الخلافتَين الأموية (41_132هـ) والعباسية (132_656هـ)، تُعَد أفضل فترةٍ يُمكن أن نتلمّس فيها منهج الأئمة، ولنتأكّد من منهج الإمام الحسين، أَ كان قاعدة أم استثناء؟ إن هذين الإمامَين، ولا سيما الإمام الصّادق الذي امتلك أشهر مدرسة علمية بين سائر الأئمّة، نجده قد رجَّحَ تعزيز البُنى التحتية الثقافية على النشاط السياسي الحاد، ولا سيما النضال المسلَّح. ولَمْ يُبدِ استعداداً لتكرار  مبادرة الإمام الحسين بحجّة عدم توافر العدد الكافي من الأصحاب. وفي فترة إمامة الإمام الصادق حين ثار عمّه زيد بن علي بن الحسين (76_122هـ) ولاقى مصيراً كمصير الإمام الحسين، كان موقف التشيّع الجعفري على خلاف التشيّع الزيدي، ولم يجعل الثورة المسلّحة شرطاً من شروط الإمامة. وما إن استقرّ الأمر للعباسيين اعتُقِل الإمام موسى الكاظم (128_183هـ) وقضى سنوات طويلة في السجن. وإن الإمام عليّ الرضا (148_203هـ) لشعبيته آنذاك قَبِل مُكرهاً بمنصب ولاية العهد في حكم المأمون، بشرط ألّا يتدخّل في الشؤون السياسية. وهكذا سائر الأئمّة، لم يمارس أيّ منهم نشاطاً سياسياً، وتعرّضوا تدريجاً إلى مزيدٍ من الضغوطات والمضايقات، حتّى صعب على أصحابهم المقرّبين أيضاً أن يتواصلوا معهم. وبالمحصّلة النهائية لا نجد في سيرةِ أيّ واحدٍ من الأئمّة طريقة الإمام الحسين في التصدّي للسلطة المعاصرة له. فإنّه يُعد استثناءً بين أئمة أهل البيت، وليس قاعدة، مهما كانت الأسباب.

ثانياً: لم يتّبع علماء الشيعة أيضاً الأنموذج الحسيني الذي يحثّ على محاربة الجائر، ويحرّم السكوت عن الظالم. وبعبارةٍ أخرى اعتماد الطريقة المعبَّر عنها بـ«التشيّع الأحمر» و«الإسلام، المدرسة المناضلة». لقد سلك علماء الشيعة منذ البداية وحتّى الآن طرقاً متفاوتة، بدءاً من الشريف المرتضى عَلَم الهُدى (355_436هـ) نقيب الطالبيين، وأمير الحاج ورئيس ديوان المظالم، ونصير الدين الطوسي (597_672هـ) وزير الحاكم المغولي هولاكو، وغيرهما من القرّبين من الحكومات المعاصرة لهم؛ ووصولاً إلى الفقهاء المساندين للحِراك الدستوري [المشروطة] في إيران من أمثال الآخوند الملا محمّد كاظم الخراساني (1255_1329هـ) والميرزا محمّد حسين النائيني (1276_1355هـ) من الذين كانت لهم ميول نحو ممارسة النضال السياسي. لم تكن أيّ من هاتَين الطريقتَين نمطاً متّبعاً لدى أغلبية الفقهاء الشيعة. فإن من يمثّل الأغلبية بين الفقهاء الشيعة هم فقهاء من أمثال الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي (1267_1355هـ) مؤسس الحوزة العلمية في قم، والسيد حسين الطباطبائي البروجردي (1875_1961م)، مِن الذين عُرِفوا بـ«الفقهاء الصامتين». وإن الفقيه الوحيد الذي يمكن أن نقول عنه بأنه نهض طبقاً للأنموذج الحسيني هو السيد روح الله الموسوي الخميني (1902_1989م). فهو أيضاً كان يؤكّد بأن حِراك 5 حزيران [في عام 1963] وثورة شباط 1979 هي فرعٌ من الثورة الحسينية وامتداد لها. وعلى الرغم من أن الكثير من مراجع التقليد الشيعة خاضوا غمار النضال السياسي في السنتَين 1963 و1964، ولكن بعد أن نُفِي السيد روح الله الخميني والسيد حسن الطبابطائي القمي (1912_2007م)، عاد سائر المراجع إلى النهج التقليدي لدى الشيعة. وفي نظرةٍ كليّة إلى تاريخ علماء الشيعة يمكن القول بأن الأعم الأغلب منهم لم يعتمدوا الطريقة الحسينية على الصعيد العملي، وهذا يعني بأن الحسين في هذا المستوى أيضاً (مستوى العلماء وليس الأئمة) ظلّ استثناء وليس قاعدة. فبحسب فتوى الأعمّ الأغلب من علماء الشيعة يُشترَط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم تحقق الضرر على المال والنفس. بمعنى أن الشيعي المتشرّع لا يجب عليه القيام بعملٍ ممثال لعمل الحسين، ولا داعي إلى بلوغ الشهادة لاعلاء كلمة الحق.

ثالثاً: كلّ القرارات التي اتخذها الإمام الحسين طوال حياته «عقلائية». فإذا كان يعلم بما يئول إليه الأمر لما كان يكترث بكُتب أهل الكوفة والبصرة وبدعوتهم غير المسنودة. وبعبارةٍ أخرى إن الإمام الحسين بصفته واحداً من «العلماء الأبرار» اتخذ قراراً بشرياً، ولاقى مع أسرته وأصحابه مآلات هذا القرار . وإن الاعتقاد بأنّه كان على علم بما يئول إليه الأمر، ولكنْ لَم يُسمَح له بالاستفادة من هذا العِلم (ردّ المنهج التقليدي) هو أمر لا يمكن القبول به. إذ لا يوجَد أحدٌ يُسمَح له بالعمل خلافاً للحُكم الإرشادي الوارد في القرآن: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة. (البقرة/95) وإن الجواب الصحيح هو أن نقول بأن الإمام الحسين اتخذ قراره بحسابات بشريّة، ولم يتوقَّع غدر مُرسلي الكتب الهزلاء في الكوفة والبصرة. وفي قراره اللاحق رفض ذلّة البيعة مع الخليفة الجائر، وشرب من كأس الشهادة بكلّ عزّ وكرامة. وقد استلهم سائر الأئمة دروساً من تجربة الإمام الحسين، وحاولوا تجنّب المواجهة العلنية مع الخلفاء الجائرين لكي لا يواجهوا مصيراً كمصيره. إن سيرة الأئمة تستبطن تأييداً لـ«نهج العلماء الأبرار»، وليس «الإمامة فوق الإنسانية القدسية». ولهذا السبب لم يُستشهَد من الأئمة سوى الإمام علي والإمام الحسين (قتلاً بالسيف)، والإمام الحسن المجتبى والإمام موسى الكاظم (قتلاً بالسُّم). والسبعة الآخرون من الأئمّة فارقوا الحياة بالموت الطبيعي. هذا هو نصّ ما ذكره الشيخ المفيد (336_413هـ) أحد أكبر علماء الشيعة. (في كتاب المقنعة، باب الأنساب والزيارات، ص 461_485)، حيث شكك في استشهاد الإمام عليّ الرضا عن طريق دسّ السُّم، ورفض بشدّة استشهاد بقيّة الأئمة (أي الستة الباقين منهم). (تصحيح الاعتقاد، ص132.)

رابعاً: لقد بالغ التشيّع التقليدي والتشيّع الثوري كثيراً في أهمية الفاجعة الأليمة لمقتل سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه في كربلاء. لا شكّ في أن بعثة النبيّ ونزول القرآن وتعيين الإمام علي بصفته المصدر الثالث للمعرفة الإسلامية من لدن النبي هي أحداث أكبر من استشهاد الإمام الحسين. ولكن أعلام الشيعة حوّلوا فاجعة كربلاء إلى العلامة الأبرز في هوية التشيّع. وبالنظر إلى ما تحمله فاجعة كربلاء من تصدّع للعواطف والأحساسيس، فلا يوجد حادثة أخرى يمكنها أن تستوعب هذا الاهتمام، حتّى باتت ولا تزال أمراً عاطفياً ملموساً لدى جميع فئات النّاس من نساء ورجال وشباب وبراعم وأطفال. إن حجم معلومات الشيعة عن التفاصيل التاريخية لمقتل الإمام الحسين، وحتّى عن فرسه (المعروف بذي الجناح) أكثر بكثير من محكمات التعاليم القرآنية والتعاليم الأساسية في السنة النبوية، ومن المعارف الضرورية في تعاليم الإمام علي، ومن القيم الأخلاقية في تعاليم الإمام الحسن، ومن أدعية الإمام زين العابدين ومناجاته، ومن الموازين الفقهية في تعاليم الإمامَين محمّد الباقر وجعفر الصادق، ومن القضايا العقائدية في تعاليم الإمامَين موسى الكاظم وعليّ الرضا. إن الخرافات الملحقة بزوجةٍ اسمها شهربانو ابنة يزدجرد الثالث، وعمّا يُذكر عن طفلة صغيرة اسمها رقيّة، وعن زواج القاسم بن الحسن الذي لم يبلغ الحُلُم في يوم عاشوراء، وأمور كثيرة أخرى قد ترسّبت في الثقافة العامة لدى الإيرانيين. ولكن إلى جانب هذه الأمور التي لم ترد لا في أصول الدين ولا في فروعه هنالك هبوط كبير في مستوى المعلومات المتعلقة بكثيرٍ من الموازين الإسلامية والشيعية، والهبوط أشد وأكبر على صعيد العمل بالموازين الشرعية والأخلاقية. لا يمكن لطم الصدور وذرف الدموع وصرف الأموال من أجل إمام الأحرار، إلى جانب ممارسة الكذب والغيبة واختلاس المال العام، وعدم الاكتراث بحقّ النّاس، والتقاعس في انجاز المناسك الشرعية، والتهاون في العمَل المكلَّف به والغشّ فيه. فعلى الرغم من أنَّ أزيد مِن خمسة وتسعين بالمئة من الشيعة يشاركون في مراسيم العزاء الحسيني، لا نجد تناسباً ملموساً بين سلوكهم والأخلاق والحرّية الحسينية، وإن التزامهم بالمناسك والموازين الشرعية ليس أكثر من سائر المسلمين. وعليه يمكن القول بأن الشعائر والمآتم الحسينية لم ينتج عنها ترسيخٌ للفضائل الحسينية والقيم الإسلامية والشيعية في المجتمع. ما يُرجى من هذه المراسيم أن تكون لنشر وترسيخ كلّ المعارف الإسلامية والشيعية؛ وإن استذكار المقتل والتفاصيل التاريخية وتحليلها لغايات نضالية أو سياسية لا يترتّب عليه ذرّة من انتشار التديّن، وهذا ما حصل فعلاً. إن تهييج أحاسيس الهوية الدينية وعواطفها حقق رونقاً لسوق الشعائر المذهبية. وإن التحليل غير التاريخي وغير الانتقادي لواقعة كربلاء، وتطبيقها على القضايا السياسية والنضالية والثورية ما هو إلا استفادة أو استغلال لحجم هذه الواقعة، ويندرج ضمن توظيف الدين للأغراض السياسية، ولم تتحصّل منه فائدة تتعدّى الثورة والنضال. على هذه المجالس أن تتحوّل إلى أماكن لترويج الفضائل الدينية والموازين الشرعية، فالحسين ضحّى بنفسه لإحياء هذه الفضائل والقيم. وعليه فإن الالتزام بالموازين الشرعية والأخلاقية هو المعيار الأساس في اختبار مدى الاتّباع لنهج الإمام الحسين. ولنبدأ بأنفسنا.

 

النتيجة

فلنعد إلى الأسئلة الثلاث التي عُرضَت في بداية المقال. يُعدّ الإمام الحسين بين أئمة أهل البيت استثناء وليس قاعدة. وإن أغلبية العلماء الشيعة لم يتّبعوا على الصعيد العملي النهجَ الحسيني، ولم يوصوا في آرائهم العلمية بالنضال والاستشهاد على طريقة الإمام الحسين. وإن أفضل شاهد على هذا الرأي هي الشروط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لقد بالغ التشيّع التقليدي والتشيّع الثوري كثيراً في أهمية الفاجعة الأليمة لمقتل سيّد الشهداء وأهل بيته وأصحابه في كربلاء. وإن مجالس العزاء الحسيني في القراءة التقليدية هي من أجل نيل الثواب ولتكوين الهوية الشيعية، وفي القراءة الثورية هي مجالس لإعداد المتدينين وتهيئتهم لإحداث ثورةٍ ضدّ الطاغوت؛ وكلتا القراءتان حققتا نجاحاً نسبياً في تطبيق غاياتها. ولكنَّ القراءة التاريخية النقدية ترى بأن هذه المجالس لم توفَّق في ازدياد المعارف الإسلامية وترسيخ الفضائل الدينية بين الشيعة، لأنّها تمحورت أوّلاً حول تفاصيل المقتل، ولم تهدف إلى تبيين المعارف الضرورية في القرآن وسنّة النبي وتعاليم أهل البيت أهل البيت. وثانياً لم يتقدّم الشيعة للأسف الشديد على سائر المسلمين أو غير المسلمين في تحقيق الفضائل التي بذل الإمام الحسين حياته من أجلها.

تاسوعاء 1441 _ 9 أيلول 2019

 

ترجمة حسن الصرّاف

المدی، جریدة سیاسیة یومیة، السنة السابعة عشرة، العدد (4507 و 4598)، 16 و17 ایلول 2019، ص 6: آراء وافکار