فهم الاسلام بين القراءة التقليدية والقراءة المقاصدية
تستهدف هذه المقالة المساهمة في تطوير نظرية تعالج العلاقة بين الاسلام والحداثة، مع التركيز على جانب محدد هو فقه المعاملات. ينطلق الكاتب من فرضية خلاصتها ان الزمان والمكان عنصر جوهري في تشكيل مفهوم المصلحة، وان اختلاف الزمان والمكان يؤدي بالضرورة الى تغيير هذا المفهوم، حتى مع بقاء الاسم والعنوان. وبالنظر الى ان الاحكام الشرعية تدور مع المصالح، وان تحقيق المصلحة ودفع المفسدة يمثل حكمة غالب الاحكام وغايتها، فقد استعرض الكاتب ابرز المعالجات الخاصة بالثبات والتغيير في الحكم الشرعي.
استعرض المقال مفهوم الثبات والتغيير عند ثلاثة من ابرز الفقهاء هم العلامة محمد حسين الطباطبائي، العلامة الميرزا النائيني والشهيد محمد باقر الصدر. ثم استعرض المفهوم المقابل، اي فقه الحكومة الذي تطور على يد آية الله الخميني. وقدم أخيرا اقتراحه الخاص، اي الاسلام المقاصدي، حيث ربط مفهوم الثبات والتغيير بمعياري العدالة والعقلانية.
يندرج البحث في اطار الاجتهاد في الاصول، حيث يعطي للعقل مكانة موازية للنص. ويماهي بين العقل كمصدر للتشريع وبين عرف العقلاء، كما يعتبر الزمان جزءا من حقيقة عرف العقلاء.
تبدو بعض الاراء التي قدمتها المقالة غير معتادة في دراسات الفقه وأصوله، لكنها جميعا مؤسسة على ارضية دينية متينة، وهي جميعا تستهدف دعوة الباحثين الى التأمل في المجالات والمسارات والخيارات التي يتيحها الاسلام الحنيف للتفكير فيه وفي علاقته بعالم الانسان.
تمهيد
بالنظر لمكانة الدين في المجتمع، وتاثير الاسلام في الثقافة الايرانية طوال تاريخها، فان اصلاح الفكر الديني يشكل ركنا هاما من اركان الحركة الاصلاحية في ايران المعاصرة. ان جهود الاصلاح قد لا تكون مثمرة من دون اصلاح الفكر الديني. لقد تعثر الحراك الاصلاحي بصورة متكررة. ولا شك ان بعض تلك العثرات كان ثمرة لتاثير الثقافة التقليدية المعيقة للتقدم، او المتشككة في معناه وتمظهراته. ولهذا فنحن بحاجة الى فهم نقاط الاشتباك بين الحراك الاصلاحي وبين الثقافة الدينية التقليدية، كي نستوعب العقبات التي تواجه مسيرة الاصلاح.
من نافل القول ان التفكير الديني لا يتحرك في فراغ. فهو يتفاعل بحيوية مع بقية الجوانب في حياة المجتمع، ويتأثر بها كما يؤثر عليها. ومن هنا فان بقاء الفكر الديني خاملا وتقليديا، سينشر الخمول والجمود في بقية جوانب الحياة الاجتماعية. وعلى العكس، فان نهوض الثقافة الدينية وتطورها، سينعكس على مختلف مسارات الحياة. بصورة اجمالية فان أي تحرك ايجابي أو اصلاحي في جانب من جوانب الحياة الاجتماعية سيؤثر بالضرورة على الجوانب الاخرى.
لقد عرضت تفسيرات كثيرة لتعثر الحراك الاصلاحي في بلادنا. ولاشك ان بعض هذه التفسيرات صالحة وصحيحة. لكني أريد الاشارة الى واحد منها على وجه الخصوص، وهو ان القيم والمعايير التي تشكل ارضية وضابطا لمسار الاصلاح، ليست راسخة الجذور في ثقافتنا العامة. لا بد للقيم والمعايير الاصلاحية ان تنفذ الى اعماق النسيج الثقافي، كي يتحول الاصلاح الى سلوك اعتيادي مقبول من الجميع، اي يصبح جزء من العرف العام السائد.
الاصلاح ليس خيارا نأخذ به او نلقيه جانبا. فهو ضرورة لتجديد الحياة والقيم ومواكبة التحولات الكبرى في حياة البشرية. لكن نجاح الاصلاح رهن باستعدادنا الداخلي، للتخلي عما لم يعد مفيدا او صالحا، مهما كان محبوبا او مألوفا لنفوسنا. مالم تتحول القيم المؤسسة للفكرة الاصلاحية الى عرف وتقليد ثقافي عام، فلن يتغير الكثير في حياتنا، وستبقى عجلة الحياة تدور وتدور حول نفس المحور الذي عرفته طيلة القرون الماضية، بنفس الطريقة، من دون توقف.
لحسن الحظ فان الواقع ليس شديد السوء، وثمة مكان للتفاؤل. يخبرنا التاريخ ان الفكر الديني في ايران، قد شهد تحولات واسعة واساسية، سيما خلال المئة عام الاخيرة. لو أردنا وضع مؤشر عام يصف المسار الاجمالي لهذا التحول، فسوف نقول انه – في المضمون – تحول من الفهم التاريخي/التقليدي للدين الى الفهم المقاصدي المتصل بغايات التدين وأغراضه الكبرى.
مفهوم الاسلام التقليدي
المقصود بالاسلام التقليدي/التاريخي، هو نمط التدين الذي تشكل بناء على ثقافة عصور الاسلام الاولى، وما ساد فيها من ضرورات سياسية او اقتصادية وقيمية.
نعلم طبعا ان التدين العام ليس تطبيقا صافيا لخطاب الشارع. بل هو – في المقام الأول – صورة عن فهم الناس لهذا الخطاب. ونعلم ان فهم الخطاب يتأثر – بالضرورة – بالمستوى الثقافي السائد وبالضرورات الحياتية، فضلا عن شبكة الاعراف والتقاليد. وجميع هذه العوامل تتدخل في تحديد مستوى وطريقة استيعاب اي خطاب جديد. هذه العملية التي تجري – بصورة عفوية في الغالب – تنتج نمط تدين تختلط فيه قيم الوحي الاصيلة، بالعديد من المؤثرات القادمة من الحياة الاجتماعية والثقافة السائدة، اي من خارج اطار الدين. لكنها مع مرور الوقت، وبسبب ألفة الناس لها، تتحول الى صورة كاملة عما نعتبره دينا. بعبارة اخرى، فان الدين الذي يمارسه اي مجتمع، ليس تطبيقا لنص الوحي كما كان لحظة نزوله، بل هو النتاج العملي لفهم العرف. لأنه يتضمن بالضرورة العديد من العناصر التي تعكس حقائق الظرف الاجتماعي القائم يومئذ، والتي يؤثر كل منها على فهم الناس للنص.
ليس هذا بالامر الغريب او المثير للدهشة. فالمجتمعات تغير قناعاتها وتقاليدها وانماط معيشتها بصورة مستمرة. كلما تغيرت حاجاتها، وكلما تغيرت ظروفها، ابتكرت اعرافا وتقاليد ومبررات ثقافية وقيمية، كي تستوعب الانظمة الثقافية المستحدثة ، وتدمجها في منظومتها القيمية والسلوكية.
الذي حصل في التجربة التاريخية الاسلامية، ان الاعراف والتقاليد وبقية العناصر الثقافية المرتبطة بالظرف الزمني والمكاني لعصر النص، وكذلك الشروط الخاصة بالمرحلة التاسيسية للجماعة المسلمة، تحولت الى جزء من الدين، ولبست رداء القداسة التي يختص بها الدين. حتى ان الذين يتحدثون عن “الدين الاصيل” لا يجدون مثالا يستشهدون به، سوى القصص التي نقلها التاريخ عن ذلك العصر. وحين يذكرون نماذج عن شخصيات الاسلام، فانهم لا يرون احدا سوى الذين عاشوا يومذاك.
بكلمة أخرى، فان محتويات عصر الوحي قد تحولت – في اذهان المسلمين – الى نوع من المثال الذي يتطلع اليه كل مسلم. فكلما ابتعدنا عنه زمنيا، ابتعدنا عن المثال والصورة النموذجية للدين. وترتب على هذا اعتقاد فحواه ان احياء الدين وتجديده يعني، على وجه التحديد، احياء الاعراف والتقاليد ونمط العيش الذي كان سائدا في عصر الوحي.
مفهوم الاسلام المقاصدي
في المقابل فان القراءة المقاصدية تدور حول غايات الدين واغراضه، التي لا تنحصر في ظرف اجتماعي خاص، ولا تستمد قيمتها او ديمومتها من حقبة تاريخية بعينها. هذا لا يعني إغفال علاقة الوحي بالظرف الذي نزل فيه ومتطلباته. بل يعني على وجه الدقة، النظر الى هذا الظرف باعتباره ظرفا، وليس قيدا على الرسالة ولا جزء من جوهرها، ولا غاية نهائية للخطاب الالهي.
التركيز على غايات الدين ومقاصده، يعني ربط تطبيقات القيم والتعاليم الدينية، بل والتدين في العموم، بروح الرسالة والاغراض التي ارادت تحقيقها في حياة اتباعها، ولا سيما تقوى الله في السر والعلن. اما الظواهر والشكليات ونظم العيش، فهي غير مستهدفة بذاتها، وليست موضوعا لاهتمام الدين. فهي تعبر في المقام الاول عن حاجات للناس في ظرف زمني او مكاني خاص، سواء كان هذا الظرف هو زمن الوحي او الازمان التالية له. ولانها كذلك فهي تتغير بين زمن وآخر، او بين مكان وآخر، بحسب حاجات الناس وتحولات حياتهم.
رسالة الله مثل الغيث، يهطل على الارض في حقبة محددة، زلالا صافيا. ثم يجري في ارجائها. فيحمل من كل بقعة يمر بها، شيئا من لونها ورائحتها وطعمها، ويدخل فيه شيء من اعرافها وتقاليدها. وحين يمر الزمن، تجد في كل مجتمع نسخة من الاسلام، تتوافق مع بقية النسخ في العمومات، وتتمايز في التفاصيل. ونفهم بالبديهة ان هذا التمايز ثمرة لاختلاف المجتمعات في الافهام والحاجات والسلائق.
العمل الذي ينبغي لعلماء ومفكري الاسلام القيام به، هو تفكيك ذلك الاختلاط بين الرسالة وتقاليد المجتمعات. أي فرز الجزء الذي يعكس روح الرسالة وغايتها، من ذلك الذي يعكس حاجات بشرية خاصة بظرف معين. ومن بينها المقتضيات الخاصة بعصر الوحي. ومن ثم العبور من المسائل والقضايا المرتبطة بالزمان، الى النص الثابت والعابر للزمان. وبتعبير آخر، فان دور العلماء والمفكرين لا ينبغي ان يختصر في تكرار المسائل والاحكام التي انتهى زمنها، وتلاشت المصلحة المقصودة من تشريعها، فلم يبق منها غير الاسم والشكل الخارجي، من دون فاعلية تذكر في تحقيق الاهداف والغايات الرفيعة للدين.
ينبغي للعلماء والمفكرين التوقف عن تدوير الافكار في حلقة مفرغة، والتركيز – بدل ذلك – على الرسالة الداخلية لتعاليم الدين، اي جوهرها، والغايات التي تبتغي الوصول اليها في هذا العصر.
صدمة الحداثة
ما نشهده اليوم من اهتمام بتجديد المعرفة الدينية، يؤكد ان مجتمعنا – في العموم – يشعر بالحاجة الى مراجعة ما ألفه وما ورثه من ثقافة دينية. وهو يشعر بأن ما ينفعه هو هذه القراءة الجديدة، اي الاسلام المقاصدي، الذي تحرر من قيود التاريخ واتجه الى الحاضر والمستقبل، ساعيا للربط بين قيم الدين وحاجات العصر. وليس ثمة شك ان نضج هذا المسار وتكامله ونموه، سيأتي بنفع كبير للدين ولمجتمع المؤمنين.
لكن يجب الانتباه الى حقيقة ان هذا المسار سيؤدي – ظاهريا على الاقل – الى تقليص المجال الديني. بمعنى انه سيخرج الكثير من القضايا والمسائل من دائرة الدين الى دائرة العلم، حيث يجري تكييفها بناء على معطيات العقل المعاصر، وليس احكام الفقه او مصادره. أقول ان هذا سيجعل الدين اضيق نطاقا. لكنه سيكون – في نفس الوقت – اكثر عمقا واقرب الى جوهر المسألة الدينية ونطاقات اشتغال الدين. وسيجد انسان اليوم الحائر، ضالته في التأمل في الدين.
كلما انخرط الدين في قضايا ومشكلات المجتمع والمعرفة، كلما تعرفنا اكثر فاكثر على واقعه، كفاءته والمتوقع منه، بشكل اكثر دقة وتحديدا.
انفتاح المسلمين على تيار الحداثة، هو الذي أثار معظم الاسئلة المتعلقة بدور الدين ومكانته في العصر الحديث. بالنسبة لايران، يمكن تحديد نقطة البداية بالحركة الدستورية (1905)[1]. قبل هذا الحدث، كانت العقائد والاخلاق والشريعة جزءا من العرف السائد. ولم يكن ثمة جدل جدي، يشكل تحديا لأي من مكونات هذا العرف الدينية او غير الدينية. مع دخول العالم عصر الحداثة، وتعرف المسلمين تدريجيا على معايير العصر الجديد وقضاياه، برزت العلاقة بين التدين والحداثة كواحدة من اهم المسائل التي واجهت الانسان المسلم في عصره الجديد.
ولعل نقطة الاشتباك الاولى هي اكتشاف التعارض بين بعض المقولات الدينية، ومقولات او منجزات المدنية الحديثة. ومع مرور الزمن، ظهرت ابعاد اخرى للتفارق بين الجانبين، ولاسيما في مجال الشريعة اي الفقه واحكام الاسلام العملية، اكثر مما ظهر في مجال الايمان والعقيدة والاخلاق والسلوك. اصبح المشكل اكثر جدية حين اتسع نفوذ منتجات المدنية الجديدة ومنجزاتها، وتحول الى عرف عام للعصر، او بحسب المصطلح الفني، تحول الى سيرة العقلاء في هذا العصر. فقد أدى هذا التطور الى تعارض مباشر بين بعض المقولات الدينية وبين عرف العصر الجديد او سيرة العقلاء.
كان رد الفعل الاولي من جانب المتدينين، هو تخطئة الدعاوى والمعايير الجديدة. بل ان بعضهم صور الحداثة كمحاولة منظمة أو مؤامرة شيطانية غرضها هدم اساس الديانة. وقرروا – تبعا لهذا الفهم – ان الواجب الديني يومئذ يقتضي اغلاق ابواب البلاد امام تيار الحداثة.
في مقابل هذا الافراط، اتخذ فريق اخر جانب التفريط. فقرر ان طريق السعادة يكمن في التسليم المطلق للحداثة، وتهميش الدين الى اضيق زاويا الحياة. وما حدث فعلا ان هذا الفريق توقف عند تغيير المظاهر، ولم يقبض على جوهر التقدم. ثمة فريق ثالث يضم المتدينين ذوي البصيرة، رأى ان التخلي عن الدين والتقاليد لن يأتي بخير. كما ان الفرار من مواجهة تحدي الحداثة عبث مستحيل. ان تجربة المواجهة الأولى تكشف ان صخرة لا يمكن ان توقف السيل. وان علينا – بدل الممانعة السلبية – التفكير في وسيلة اخرى. خيار الفريق الثالث هو ايجاد مصالحة من نوع ما، بين الدين والحداثة، اي الحفاظ على الايمان، دون التنكر لتجربة الانسان في العصر الحديث.
– لكن كيف يمكن للمسلم ان يعيش في العالم الحديث، وان يحافظ في الوقت نفسه على تقاليده؟
قدمت اجوبة مختلفة على هذا السؤال المهم، تخبرنا عن مساع حثيثة بذلها علماء الدين، لحل الإشكاليات والتنازعات المحتملة بين تعاليم الاسلام ومقتضيات العصر الجديد. ومثلما يحدث في كل جدل، كانت بعض الاجوبة متقنة ومتينة، وبعضها الآخر دون المستوى المطلوب من حيث العمق. لكن – على اي حال – فان مجموعها يشير الى اهتمام علماء الدين بهذا الامر.
لأسباب علمية وفنية بحتة ، سوف نقتصر هنا على استعراض اجوبة علماء الدين والمفكرين الاسلاميين الشيعة. وكما سياتي فان معظم التعارضات التي رصدها هؤلاء، محصورة في دائرة التشريع والقانون، أما في دائرة الاعتقاد والايمان والاخلاق والسلوكيات، فليس هناك سوى القليل من التعارضات الجدية بين الدين والحداثة. ومن هنا فان معظم المعالجات المقترحة، تركزت على الدائرة الاولى.
جدير بالذكر ان المناقشات المتعلقة بهذا الموضوع، تتجاوز دائرة التشريع الى فلسفة الدين وفلسفة التشريع والقانون. وهي جميعا جديرة بالنقاش. لكننا سنخصص مناقشتنا الحاضرة للمقاربات المنهجية الخاصة بالتشريع، دون فلسفته او فلسفة الدين. وبهذا التخصيص تندرج المناقشة في الاطار العام لعلم اصول الفقه.
يمكن تقسيم هذه المعالجات الى ثلاثة مسارات منهجية او نماذج، هي نموذج الثابت والمتغير، ونموذج الفقه الحكومي او فقه المصلحة، واخيرا نموذج الاسلام المقاصدي/الغائي.
المقاربة الاولى: نموذج الثابت والمتغير
نموذج الثابت والمتغير هو اشهر النماذج واكثرها رواجا خلال القرن الاخير. وفقا للقائلين بهذا النموذج، فان احكام الشريعة الاسلامية تنقسم الى نوعين: احكام ثابتة واخرى متغيرة. الاحكام الثابتة هي متن الشريعة، ولذا فهي عابرة للزمان والمكان. اما الاحكام المتغيرة فهي مؤقتة، ظرفية وتابعة للمصالح الموضعية، وقابلة للزوال. الثوابت هي تلك التي اوحى الله بها الى نبيه. اما المتغيرات فهي تلك الاحكام التي يضعها البشر في ظل الثوابت. ومع انها واجبة الاحترام في المجتمع المسلم، الا انها لا تعتبر جزء من متن الدين. اما من يضع هذه الاحكام ويقننها، فان للعلماء فيه قولان:
التقرير الاول: ان الحاكم هو مشرع الاحكام المتغيرة.
من القائلين بهذا الرأي المرحوم محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان [2] واتباعه. وهم يعتقدون ان وضع الاحكام التي تصنف ضمن المتغيرات، بيد من يتولى السلطة السياسية في المجتمع المسلم. وبناء على نظرية ولاية الفقيه، فان المتغيرات هي ذاتها الاحكام الولائية او الحكومية، التي غرضها انجاز مصالح المسلمين [3]. وفقا للطباطبائي، فان احكام الشريعة قسمان [4].
احكام وقوانين ثابتة تحافظ على المنافع الحياتية للانسان، من زاوية كونه انسانا يعيش حياة اجتماعية، بغض النظر عن المكان والزمان والعوامل الطارئة (المتغيرة) الاخرى. مثل العقائد والنظم التي تعكس عبودية الانسان لخالقه، والقواعد العامة الناظمة لحياة الانسان، من قضايا الغذاء والسكن والزواج، وما هو ضروري لصيانة اصل الحياة الاجتماعية. فكل هذه امور ثابتة يحتاجها الانسان دائما، ولا يمكن تصور زوالها.
احكام وقوانين ذات طابع مؤقت أو محلي. وهي تختلف بحسب أنماط الحياة المختلفة. ومثل هذه الاحكام قابل للتغيير تبعا للتطور التدريجي للحضارة والمدنية، وما يستتبعه من تغير في تركيب المجتمع وتلاشي الأساليب القديمة في المعيشة وظهور بدائل جديدة عنها.
تقوم الاحكام الثابتة على اساس ما جبل عليه الانسان وجوديا، وما تقضي به خصوصيته في الخلق. وهذه تسمى الدين والشريعة الاسلامية، التي تقود الانسان لو تحرك في اطار هداها نحو السعادة الانسانية “فَاَقِم وجهك للدين حَنيفاً فطرة الله التي فَطَر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم – الروم 30”.
اما النوع الثاني، أي الاحكام القابلة للتغيير، فترتبط بالمصالح العامة، التي قد تختلف بين زمان وآخر وبين مكان وآخر. وضع هذه الاحكام جزء من سلطات صاحب الولاية العامة، حيث تشخص موضوعاتها وحدودها بما يحقق المصالح العامة في كل ظرف، وفي اطار الثوابت الدينية. هذا النوع من الاحكام، لا يعد بحسب الاصطلاح الديني الخاص، جزء من الشريعة السماوية، ولا يطلق عليه اسم الدين، وان كان واجب الطاعة، لصدوره عن ولي الأمر “يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم – النساء 59”.[5]
مثل هذه الاحكام والقوانين المتغيرة، تنتهي الى اصل في الاسلام، هو “صلاحيات ولي الامر”. وهذا الاصل هو الذي يعالج الحاجات المتغيرة للناس في كل عصر وزمان، ويستجيب للتبدلات في كل منطقة ومكان ومجتمع، من دون ان تنال الاحكام الثابتة في الدين يد النسخ او التبديل[6] .
ولي امر المسلمين الذي وصل الى منصبه وفقا للقواعد المقررة في الشريعة، هو النقطة التي يتلخص فيها رأي المجتمع المسلم، وتتكثف فيها مشاعره وارادته العامة. وهو يملك الولاية العامة في المنطقة التي يحكمها، بكل ما تنطوي عليه من صلاحيات عمل وتصرف. ان يد الحاكم (ولي الامر) مبسوطة دون قيد في وضع وتنفيذ ما يراه مناسبا من الضوابط والقوانين الجديدة، التي تساعد على تقدم الحياة الاجتماعية، وتحقق مصلحة الاسلام والمسلمين.
ما ينبغي التاكيد عليه مجددا ان الاحكام الجديدة التي اسميناها المتغيرات، واجبة التنفيذ. الا انها في الوقت ذاته، لا تعد جزء من الشريعة، ولا تدخل في نطاق الحكم الالهي. هذه النظم وجدت لتحقيق مصلحة، فبمجرد ان تنتفي المصلحة يرتفع الحكم. حينها يتعين على ولي الامر ان يرفع الحكم المنتفي ويعلن ذلك للناس، ثم يستبدله بحكم اخر يتسق مع المصالح المستجدة [7].
يمكن ايجاز تقرير العلامة الطباطبائي عن نموذج الثابت والمتغير، في النقاط التالية:
1- احكام وقوانين وتعاليم الاسلام تنقسم الى قسمين: ثوابت ومتغيرات.
2- سمات الاحكام في القسم الاول انها: أ) حافظة للمصالح الحيوية للجنس الانساني. ب) ثابتة لا تقبل التغيير والنسخ. ت) وضعت من قبل الشارع، اي الخالق سبحانه او الرسول. ث) المقصود بالدين والشريعة الاسلامية هو احكام هذه القسم حصرا.
3- سمات الاحكام في القسم الثاني انها: أ) حافظة للمصالح المختلفة الزمانية والمكانية والمؤقتة للبشر. ب) متغيرة، قابلة للزوال والنسخ. ت) توضع من قبل والي المسلمين في اطار الثوابت الدينية. وهي توضع وتلغى بحسب تشخيصه للمصالح الزمنية. ث) مع انها واجبة الطاعة الا انها لا تعتبر من الشريعة او الاحكام الالهية.
هذا التقرير عن نموذج الثوابت والمتغيرات، يستدعي بعض الاسئلة الضرورية، منها:
1- هل جميع الاحكام الشرعية الموجودة في الكتاب والسنة، تصنف بين الاحكام الثابتة؟
2- اذا كان بين الاحكام الصادرة عن النبي او الائمة احكام متغيرة، فما هو معيار التمييز بين الاحكام الثابتة والمتغيرة؟
3- اذا كان وصف الشريعة الاسلامية قصرا على الاحكام الثابتة، وان الاحكام المتغيرة ليست كذلك، رغم انها واجبة الطاعة، فما هو التكييف النظري لنسبتها الى الاسلام، واعتبارها احكاما ومقررات اسلامية؟
4- ماهو منهج ومعيار واطار الاحكام المتغيرة. وما هو المعيار الذي يستند اليه والي المسلمين في وضع تلك الاحكام؟
التقرير الثاني: ان وضع الاحكام المتغيرة مسؤولية نواب الشعب
يتفق النائيني والصدر في جانب من هذا التقرير، وهو القول بدور نواب الشعب في التشريع. لكنهما يتمايزان في جوانب اخرى. يقول الميرزا النائيني في تنبيه الامة وتنزيه الملة:
مجموعة الوظائف المرتبطة بالنظام وحفظ الدولة، وسياسة الامة، سواء كانت دساتير اولية، وهي التي تتكفل ببيان اصل القانون العام، او كانت ثانوية تتضمن الجزاء على مخالفة القوانين الاولية، لا تخرج عن احد قسمين بالضرورة: اما انها منصوصة في الكتاب أو السنة، بحيث تكون الوظيفة العملية لارباب التشريع معينة، وحكمها في الشريعة المطهرة مضبوطا، أو انها غير منصوصة، فالوظيفة العملية المترتبة عليها غير معينة، لعدم اندراجها تحت ضابط خاص، فهي حينئذ موكولة الى راي وترجيح الولي النوعي.
ومن الواضح ان الوظيفة المترتبة على القسم الاول (القوانين المنصوصة الاحكام) لا تقبل التغيير باختلاف الاعصار والامصار، ولايمكن تصور شيء فيها غير التعبد بما ورد عليه النص الى قيام الساعة.
اما الوظيفة المترتبة على القسم الثاني، فهي تابعة للمصالح. فكل ما ادى الى مصلحة صح، والعكس بالعكس. ولهذا ايضا فهي تتاثر بمقتضيات الزمان والمكان، فقد تختلف الوظيفة الشرعية او تتغير، من مكان الى اخر، ومن زمان الى آخر.
وكما ان هذه الامور موكولة الى راي وترجيحات الوكلاء المنصوبين من قبل الامام المعصوم في سائر الاقطار، عند حضوره وكونه مبسوط اليد، فكذلك الامر في عصر الغيبة، فهي موكولة ايضا الى نظر وترجيحات نوابه العامين، أو المأذونين من قبل من له ولاية الاذن.
وبعد ما اتضح هذا المعنى، فان الفروع السياسية المترتبة على هذا الاصل، هي كما يلي:
الاول: القوانين التي ينبغي الاهتمام بدقة انطباقها على الشرعيات، مقصورة على القسم الاول، أي تلك القوانين القائمة على اساس احكام منصوصة. امـا في القسم الثاني فهذا المطلب لا موضوع له اصلا ولا محل.
الثاني: الشورى، التي هي اساس الدولة الاسلامية، بنص الكتاب والسنة، موضوعها القسم الثاني. اما القسم الاول فهو خارج عن هذا العنوان تماما، ولا محل للمشورة فيه ابدا.
الثالث: كما ان اراء وترجيحات الولاة والعمال، المنصوبين من قبل المعصوم في زمن حضوره وبسط يده، ملزمة في القسم الثاني (الوظائف التي لم تنص الشريعة على أحكامها) ، كذلك فانه في عصر الغيبة ، تكون ترجيحات النواب العامين او الماذونين من قبلهم ، ملزمة في هذا القسم ، بمقتضى النيابة القطعية الثابتة.
الرابع: نظرا لكون معظم السياسات العامة، مندرجة تحت القسم الثاني (الوظائف التي لم ترد فيها أحكام منصوصة) فهي تابعة لعنوان ولاية ولي الامر ونوابه الخاصين او العامين او ترجيحاتهم، وأن اصل تشريع الشورى في الشريعة، انما هو بهذا المنظور.
ونظرا لأن قيام اعضاء المجلس بوظيفتهم في حفظ النظام، والمنع عن تعدي المغتصبين، متوقف على تدوين متعلقات الوظيفة في صورة قانون. كما ان نفاذ مقرراتهم متوقف على صدورها من مجلس الشورى كما سبق بيانه. وهذا بدوره يعتمد على كفاءة وخبرة ممثلي الامة، مع امضاء واذن من له الاذن والامضاء، كما شرحنا سابقا. فاذا تم هذا فان جميع جهات الصحة والمشروعية مجتمعة في هذا العمل، وجميع الشبهات والاشكالات مندفعة. وكون هذه الهيئة المنتخبة من الامة، مرجعا في التقنين، وانها القوة العلمية، منحصر في هذا المعنى.
الخامس: لا يندرج القسم الثاني من السياسات العامة تحت ضابط معين. وانما يختلف باختلاف المصالح والمقتضيات. وهو من هذه الجهة غير منصوص في الشريعة. بل موكول الى مشورة وترجيح من له ولاية النظر. وعلى ذلك فالقوانين المرتبطة بهذا القسم، نظرا لاختلاف المصالح باختلاف الزمان، ستكون مختلفة لا محالة، وفي معرض النسخ والتغيير دائما، دون القسم الاول الذي هو مبني على الدوام والتأبيد. ومن هنا يظهر ان القانون الذي ينظم التغيير والنسخ مربوط بذلك القسم فقط [8].
تقرير العلامة النائيني عن نموذج الثوابت والمتغيرات، يمكن تلخيصه في النقاط الآتية:
1- الاحكام السياسية، بل كافة الاحكام الاجتماعية قسمان: احكام منصوصة شرعية، واحكام غير منصوصة.
2- الاحكام المنصوصة الشرعية: أ) ثابتة ، ب) غير قابلة للتغيير، ت) غير قابلة للنسخ ، ث) يستنبطها الفقهاء ، ج) وان اكثر الاحكام السياسية ليست من هذا القسم.
3- القسم الثاني من الاحكام (المتغيرات): أ) غير منصوصة، اي انه لا يوجد في نص الشريعة ضابط ومعيار خاص لها، ب) تابعة للمصالح ومقتضيات الزمان والمكان، ت) متغيرة وقابلة للزوال والنسخ، ث) وان وضعها في يد والي المسلمين، ج) توضع بناء على مشورة اهل النظر، ح) يمكن لوالي المسلمين ان يفوض وضع هذه الاحكام الى ممثلي الشعب، خ) لا تطبق على الشرعيات د) اكثر الاحكام السياسية في هذا القسم، ذ) هذه الاحكام واجبة الطاعة شرعا.
يمتاز تقرير النائيني عن تقرير الطباطبائي السابق الذكر بالنقاط التالية:
1- ارتباط الثابت والمتغير بالمنصوص وغير المنصوص.
2- لزوم المشورة مع اهل النظر عند وضع الاحكام غير المنصوصة.
3- لا تحتاج الاحكام غير المنصوصة للتطبيق على الشرعيات.
4- امكانية تفويض وضع الاحكام غير المنصوصة الى ممثلي الشعب.
5- اكثر الاحكام السياسية بل حتى الاجتماعية تندرج في هذا القسم.
الاسئلة التي يثيرها تقرير النائيني عن نموذج الثابت والمتغير:
أ- هل يمكن اعتبار جميع الاحكام المنصوصة ثابتة، وغير قابلة للتغيير؟ اليس من الممكن ان بعض الاحكام المتغيرة، التي وضعها الرسول او الائمة، لازالت باقية بين الاحكام المنصوصة؟
ب- اذا كانت احكام القسم الثاني (المتغيرات) ليس لها معيار وضابط خاص في نص الشريعة، وان التطبيق على الشرعيات فيها بلا موضوع ولا محل، وان وضع هذه الاحكام يحتاج الى المشورة، وان بالامكان تفويض وضعها الى غير الفقهاء (ممثلي الشعب)، فما الحاجة والحال هذه الى ان يكون والي المسلمين فقيها؟
ت- الزامية وضع هذه الاحكام من جانب والي المسلمين، وكونها واجبة التنفيذ، اليس ذاته الالزام العقلي برعاية النظام الاجتماعي العام؟
ث- اذا كانت معظم السياسات النوعية، بل الاكثرية الغالبة من الاحكام الاجتماعية، احكاما غير منصوصة، فكيف وبأي معنى يمن القول بسياسة دينية او حكومة دينية، وما الى ذلك؟
التقرير الثالث: منطقة الفراغ
مثل النائيني، ارجع السيد محمد باقر الصدر [9] وضع الاحكام في الامور المتغيرة الى نواب الشعب. نعرف ان الشارع اصدر أحكاما تتعلق ببعض افعال البشر، وسكت عن الافعال الاخرى. وقد صنف الفقهاء هذا القسم من الافعال تحت عنوان المباحات. واطلق عليها الصدر اسم “منطقة الفراغ التشريعي” [10] بمعنى انها تخلو من حكم شرعي ملزم. ان سكوت الشارع عن احكام هذه المنطقة لا يعني انها لا تحتاج الى حكم اصلا، بل يعني انها متروكة للمسلمين انفسهم كي يختاروا الاحكام التي يجدونها مناسبة لحاجاتهم.
وفقا للصدر، فان الاحكام في منطقة الفراغ يضعها نواب الشعب في السلطة التشريعية، بناء على تشخيصهم للمصالح العامة. ويعتقد الصدر انه في الاحكام المختلف فيها، يعني اكثر الاحكام الفقهية، يختار مجلس اهل الحل والعقد من آراء الفقهاء ما يراه اكثر تناسبا مع مصلحة النظام. يقول في هذا الصدد [11]:
الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع وذلك على النحو التالي:
أولا: أحكام الشريعة الثابتة بوضوح فقهي مطلق، تعتبر – بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية – جزءاً ثابتاً في الدستور، سواء نص عليه صريحاً في وثيقة الدستور أو لا.
ثانياً: إن أي موقف للشريعة يحتوي على أكثر من اجتهاد، يعتبر نطاق البدائل المتعددة من الاجتهاد المشروع دستورياً. ويظل اختيار البديل المعين من هذه البدائل موكولاً إلى السلطة التشريعية، التي تمارسها الأمة على ضوء المصلحة العامة.
ثالثاً: في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجاب، يكون للسلطة التشريعية التي تمثل الأمة أن تسن من القوانين ما تراه صالحاً. على أن لا يتعارض مع الدستور. وتسمى مجالات هذه القوانين بمنطقة الفراغ، اي ما تركت الشريعة للمكلف اختيار اتخاذ الموقف فيها.
تقرير الصدر عن نموذج الثابت والمتغير، يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
أ- تنقسم القوانين الاسلامية الى ثلاثة اقسام، اولها الاحكام الشرعية المتفق عليها. وثانيها الاحكام الشرعية التي فيها اختلاف بين الفقهاء. وثالثها احكام منطقة الفراغ، اي المنطقة التي لم يقرر فيها الشارع حكما بالوجوب او التحريم.
ب- الاحكام الشرعية المتفق عليها، تعتبر من الاحكام الثابتة التي لا تزول (اطار الضروريات الفقهية).
ت- في الاحكام الشرعية المختلف عليها بين الفقهاء، يختار نواب الشعب الراي الاكثر انسجاما مع المصلحة العامة. في هذا الاطار لا يجب الالتزام براي فقيه بعينه، ولو كان مرجعا صالحا او كان ولي الامر. ويفترض ان هذه الاحكام من الثوابت ايضا.
ث- في منطقة الفراغ او دائرة المباحات، فوض الشارع التقنين الى المكلفين. نواب الشعب هم المكلفون بوضع الاحكام الملزمة في هذه الدائرة، على اساس المصلحة العامة، ومع رعاية نصوص الدستور. واضح ان احكام هذه الدائرة من المتغيرات.
ميزات تقرير الصدر على تقرير النائيني:
1- تفكيك الاحكام المنصوصة الى احكام متفق عليها واحكام مختلف عليها.
2- قبول اختيار نواب الشعب للحكم الاكثر انسجاما مع المصلحة العامة، من بين الاحكام الثابت المنصوصة التي فيها خلاف بين الفقهاء.
3- تفويض وضع الاحكام في منطقة الفراغ الى نواب الشعب.
4- الاكتفاء بالاشراف القانوني للمرجعية الصالحة على وضع الاحكام في منطقة الفراغ، من اجل التذكير بما قد يقع من مخالفة للشرع.
الاسئلة التي يثيرها تقرير الصدر عن نموذج الثابت والمتغير
أ- هل يمكن اعتبار كافة الاحكام، الاجماعية منها والخلافية، احكاما شرعية ثابتة وغير قابلة للتغيير.. اليس من الممكن ان بعض هذه الاحكام المنصوصة، هي بقايا من احكام متغيرة صدرت عن الرسول او الائمة؟
ب- منطقة الفراغ هي الدائرة التي لم يرد فيها حكم بالوجوب او التحريم من الشارع. فما هو مبرر اشراف الفقهاء على الاحكام التي يضعها نواب الشعب. اليس من الممكن ان نقول مثل ما قال النائيني من ان التطبيق على الشرعيات في هذه الدائرة بلا محل او موضوع؟
ت – تشخيص المصالح العامة في منطقة الفراغ، والاحكام المنصوصة التي اختلف فيها الفقهاء، هل يخضع لضوابط ومعايير شرعية محددة؟
تقدير اجمالي:
رغم ما ذكرناه من ملاحظات، ليس ثمة شك ان نموذج الثوابت والمتغيرات، قد تطور بشكل ملفت من خلال التقريرات الثلاثة المذكورة. مع العلم بان كلا من هذه التقريرات لا يخلو من نواقص، منها:
1- لايتضمن التقرير الاول معيارا يميز الاحكام المتغيرة عن نظيرتها الثابتة. في التقرير الثاني والثالث لا يتضح لماذا اعتبرت كافة الاحكام الشرعية المنصوصة بين الثوابت. اذا صح هذا فكيف نصنف الاحكام المؤقتة والمتغيرة التي صدرت عن النبي والائمة.
2-مشكلة عدم التوافق بين الاحكام الشرعية والحداثة، توجد ايضا في تلك الشريحة من الاحكام الثابتة والمنصوصة. هذا المشكل بقي دون حل في نموذج الثوابت والمتغيرات.
3- اذا كان الدين والشريعة محصورا في الاحكام الثابتة والمنصوصة، فانه لا يمكن القاء صفة الحكم الديني او الشرعي على الاحكام المتغيرة او غير المنصوصة، او الاحكام التي تشرع ضمن منطقة الفراغ. سيما وانه لا يتوفر معيار شرعي لتشخيص المصلحة العامة.
4- اخذا بعين الاعتبار ان الاحكام المتغيرة او غير المنصوصة، لا يتوفر لها في النص الشرعي معيار محدد او ضابط خاص، وان تطبيق الشرعيات عليها لا موضوع له ولا محل، وان وضع هذه الاحكام يحتاج الى مشورة اهل النظر، فان ايكال وضعها الى ولي المسلمين او الولي الفقيه لا دليل عليه. كما ان تفويض الاشراف عليها الى الفقهاء لضمان عدم مخالفتها للشرع، لا وجه له أيضا.
اخذا بعين الاعتبار هذه المشكلات، فانه يمكن القول ان نموذج الثوابت والمتغيرات غير عملي، الامر الذي يجعل من الضروري طرح نموذج بديل.
المقاربة الثانية: فقه الحكومة او فقه المصلحة
ينسب تطوير نموذج فقه الحكومة او فقه المصلحة، الى آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية. وهو ثمرة للمواجهة العملية بين الدين والادارة العامة. وبعبارة ادق المواجهة بين الدين ومشكلات المجتمع في العصر الحديث. سيما بعد اخفاق المقاربة الاولى (نموذج الثوابت والمتغيرات).
في اول الامر كان الخميني – مثل العديد من الفقهاء الاخرين – يميل الى هذه المقاربة. فركز على الاحكام المتغيرة وصلاحيات الحاكم والاحكام الحكومية. وكان يسعى لتعميق هذه الدائرة، املا في التوصل الى تكييف مناسب للعلاقة بين هذه الاحكام والمصلحة العامة. لكن بعد برهة، وجد ان الفقه الرائج والاجتهاد المتعارف في مجامع العلم الشرعي، عاجز عن حل مشكلات هذا العصر، وان الالتزام بتطبيقاته سيأخذ المجتمع الى طريق مسدود وينتهي الى إعاقة تطور المجتمع.
ومن هذا المنطلق، التفت الى مفهوم جديد لتاثير الزمان والمكان، ليس فقط في استنباط الاحكام المتغيرة (بحسب تقسيم المقاربة الاولى) بل جميع الاحكام، بما فيها الاحكام الثابتة. يرتكز هذا المفهوم على مكانة الفقه كمصدر تشريع لدولة قائمة، وليس فقط موضوعا للبحث النظري، كما كان الحال قبل قيام الجمهورية الاسلامية. ان قيام الدولة يجعل القانون محوريا في حياة البلاد وموجها لمسيرتها. ومن هنا فان طبيعة النظام والحركة الاجتماعية، ومجموع العناصر التي تتداخل وتشارك في تكوين الحياة العامة، باتت جزء من ظرف الاجتهاد وتطبيق الاحكام. منذ قيام الدولة، لم يعد الاستغراق النظري غرضا مناسبا للنقاشات الفقهية، كما كان الحال قبل ذلك. الغرض الرئيس هو المساهمة في تطوير القانون والسياسات العامة، بوضع النظريات القابلة للتطبيق في الواقع القائم، عسى ان تجد طريقها للتطبيق على يد الدولة التي تملك ادوات التنفيذ.
وبالنظر لهذه النقطة على وجه الخصوص، تضمنت مقاربة الخميني مراجعة لما صنف كاحكام ثابتة في المقاربة الاولى. ويمكن بناء على هذا القول ان مساهمة الخميني قد تجاوزت فعليا نموذج الثوابت والمتغيرات، الى وضع نموذج جديد مختلف كليا في اساساته ومبرراته.
هذا المفهوم الجديد لتاثير الزمان والمكان في الاستنباط يسمح بدجة اكبر من التواؤم بين الشريعة، بل الدين، وبين الحداثة، او على الاقل يقلل كثيرا من وجوه التعارض بين الاثنين. وننقل فيما يلي بعض العبارات التي تشكل مفتاحا لفهم رؤية الخميني في هذا الصدد.
لعل اكثر اراء الخميني فرادة هي قوله بالتمايز بين الاحكام الشرعية وبين الاسلام، وتاكيده على ان الاسلام هو الحكومة او الحاكمية، بكل ما يتعلق بها ويلزمها من قوانين وأحكام. ولعله الوحيد في الطبقة العليا من الفقهاء المعاصرين، الذي يقول دون تحفظ ان الاحكام الشرعية ليست مطلوبة بالذات، بل هي طرق ووسائل لبسط العدالة واقامة الحكم وحاكمية الدين “الاسلام هو الحكومة [الحاكمية] بشؤونها، والاحكام قوانين الاسلام، وهي شأن من شؤونها…. الاحكام مطلوبات بالعرض، وأمور آلية لاجرائها وبسط العدالة”[12]
معنى هذا التقرير ان الاحكام الشرعية طريقية وليست موضوعية. المطلوب بالذات هو بسط العدالة بواسطة الحكومة الاسلامية. اما المطلوب بالعرض، مع صيانة الغايات والاهداف، فهو قابل للاستبدال والتغيير.
“حصر صلاحيات الحكومة في إطار الأحكام الشرعية الفرعية، يجعلها [الحاكمية] عديمة المعنى والمضمون، ويجعل مكانة هذه الاحكام موازية للولاية المطلقة المفوضة لنبي الإسلام (ص)…. [الصحيح ان] الحاكمية فرع من الولاية المطلقة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي إحدى الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على كافة الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج. صلاحيات الحاكم الشرعي تتضمن حتى هدم المسجد أو المنـزل الواقع في الطريق، مقابل تعويض صاحبه. بوسع الحاكم تعطيل المساجد عند الضرورة، وهدم المسجد الذي ينطوي على ضرار، ان لم يمكن رفع الضرار دون هدمه. للحكومة صلاحية إلغاء العقود الشرعية التي أبرمتها مع الشعب، من طرف واحد، فيما لو ظهر ان تلك العقود تتعارض مع مصالح البلد والاسلام. ولها الحق في تعطيل اي أمر، عبادي او غير عبادي، طالما كان استمراره مخالفا لصلاح بلاد المسلمين. تستطيع الحكومة تعطيل الحج، الذي هو من الفرائض الالهية المهمة، بشكل مؤقت، حين يكون مخالفا لصلاح البلد المسلم. ….. أما ما يقال ويشاع من أنّ هذه الصلاحيات الواسعة للحكومة، ستفسد [احكام الشريعة الاولية مثل] المزارعة والمضاربة وأمثالها، أقول: فرضاً وجدلا حصل ذلك، فهذا من صلاحيات الحكومة. وهناك أمور أبعد من ذلك لكنّني لا أود مزاحمتكم”. [[13
“الزمان والمكان عنصران عاملان اساسيان في الاجتهاد. تجد مسألة كان لها في الماضي حكم، يمكن ان يكون لها اليوم اليوم حكم مختلف في ظل نظام جديد، تحكم سياساته واجتماعه واقتصاده علاقات مختلفة. بمعنى ان صورة المسألة في الماضي والحاضر قد تبدو متماثلة، لكن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحيط بالموضوع، تكشف اننا في الواقع بصدد موضوع جديد، يتطلب بالضرورة حكما جديدا. يجب ان يكون المجتهد محيطا بمسائل زمانه” [14].
دور الزمان والمكان في الاجتهاد، ونوعية القرارات التي نتخذها بناء عليهما، قضية مهمة للغاية في عالمنا المعاصر الصاخب. ذلك ان قيام الحكومة الدينية يعيد تحديد الفلسفة العملية للتعامل مع الشرك والكفر والمعضلات الداخلية والخارجية. اذا واصلنا مناقشة هذه المسائل من خلال ذات البحوث، التي اعتادها طلاب الحوزات في اطار النظريات [السابقة لقيام الحكومة] فلن نصل الى اي حل، بل ربما تقودنا الى طريق مسدود يؤدي في الظاهر الى نقض الدستور. [15]
ارى من اللازم علي ان ابدي اسفي لاستنباط جنابكم من الاخبار والاحكام. بناء على فهم جنابكم هذا للاخبار والروايات، فان الحضارة الحديثة يجب ان تزول بشكل كلي، وان على البشر ان يعيشوا الى الابد في الاكواخ او الصحارى [16].
المجتهد الواقعي يفهم الحاكمية كفلسفة عملية لكافة جوانب حياة البشر. الحاكمية تجسيد للجانب العملي للفقه في تعامله مع كافة المعضلات الاجتماعية، السياسية والعسكرية والثقافية. الفقه نظرية كاملة واقعية لادارة الانسان من المهد الى اللحد [17].
يمكن تلخيص المقاربة السابقة في النقاط التالية:
أ- الفقه الرائج والاجتهاد المتعارف ، عاجز عن مواجهة مشكلات العصر. الواضح ان هذا العجز متعلق باستنباط ما وصف في المقاربة الاولى (الثوابت والمتغيرات) بالاحكام الثابتة.
ب- الاهتمام بمقتضيات الزمان والمكان في كافة الاحكام الشرعية ، ضرورة للاجتهاد الفعال.
ت- الفقه هو النظرية الواقعية والكاملة لادارة الانسان والمجتمع من المهد الى اللحد. ومنه يتوقع حل كافة المشكلات السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، والعسكرية للمجتمع الاسلامي، بل لكل المجتمعات البشرية.
ث- (الحاكمية) والحكومة الاسلامية هي الفلسفة العملية لحياة البشر كلها. صيانة الحكومة اوجب الواجبات. وهي من الاحكام الاولية للاسلام، ومقدمة على كافة الاحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.
ج- الولاية المطلقة تمنح الفقيه صلاحيات واسعة لضمان مصالح الشعب واقامة العدل. الولي الفقيه يملك صلاحية الغاء كافة الاحكام الشرعية، التي لا تلائم مقتضيات الزمان والمكان، او تتعارض مع مصلحة النظام، طالما بقيت على هذا الوصف. كما يملك صلاحية وضع الاحكام البديلة التي تضمن مصلحة النظام.
ح- الاحكام الشرعية مطلوبة بالعرض وليس لها موضوعية. المطلوب بالذات هو اقامة الحكم الاسلامي من اجل اقامة وبسط العدل.
يمكن اجمال نقاط قوة هذا النموذج، مقارنة بنموذج الثوابت والمتغيرات في النقاط التالية:
1- نظرا لأن النموذج الاول (الثوابت والمتغيرات) لم يقدم حلا للتعارض بين الاحكام الشرعية والحداثة في جانب الاحكام الثابتة والمنصوصة، فان هذا النموذج قدم حلا وافيا لهذا المشكل، منطلقا من ولاية الفقيه المطلقة، وملاحظة مقتضيات الزمان والمكان في استنباط جميع الأحكام.
2- معرفة الفقيه بانه مفوض بوضع اي حكم ضروري لضمان مصلحة الشعب والنظام الاسلامي، وكذا تعطيل اي حكم يتنافى مع هذه المقتضيات، يعطي هذا النموذج قدرة استثنائية لتمكين الشريعة من مواكبة متطلبات العصر.
مع نقطتي القوة هاتين، يواجه هذا النموذج مشكلات ويحوي بعض الغموض، مثل:
1- لا يوفر هذا النموذج معيارا او ضابط موضوعيا /غير شخصي، لتشخيص مقتضيات الزمان والمكان. ومع ملاحظة ان تشخيص الشروط الزمانية والمكانية في يد ولي الفقيه شخصيا، وان جميع الاحكام الشرعية خاضعة لفهمه واستنباطه وفق الشروط المذكورة، فما الذي يضمن ان تغيير فهمه او تغير شخصه، لا يقود الى تغيير معظم او حتى كافة الاحكام؟ وكيف يمكن ان نقبل بربط الدين او الشريعة على هذا النحو بفهم شخص واحد؟
2- يفترض ان ناتج هذه المقاربة هو احكام دينية او سياسات دينية. فكيف حملت هذا الوصف؟ رعاية مقتضيات الزمان والمكان او مصالح النظام او مصالح الشعب، كلها امور عقلائية، ولا يلزم ان تكون موجودة في النص الديني، وقد لاتتغير مع تغيير الدين او المذهب. مجرد تفويض الفقيه بتشخيص المصالح او تحديد مقتضيات الزمان والمكان، ليس ضمانا لكون استنباطاته دينية.
1- اذا استند الفقيه في هذين الامرين (تشخيص المصلحة وتحديد مقتضيات الزمان والمكان) الى غير الدين، مثل الابحاث العلمية او رأي الخبراء، وهذا هو مايحصل واقعا، فكيف يصبح “خارج الدين” معيارا للفهم والاستنباط الديني. بل من حيث الاساس، هل سيبقى شيء من الدين اذا استمر هذا المنهج. ام ان كافة الاحكام الشرعية ستذوب في محلول المصلحة ومقتضيات الزمان والمكان؟
3- نظرا لتركيز هذه المقاربة على الحكم والقوة السياسية، والسلطة والولاية المطلقة للحاكم الديني على الفقه، فان الاحكام الشرعية ستكون بصورة ما تابعة لمصالح الحكم، وذيلا للسلطة السياسية ومنغمسة في اليوميات. ثمرة هذه المقاربة قد تكون في نهاية المطاف “دينا حكوميا”. الدين الحكومي وباء خطير، يدمر الايمان والمعنوية والوجدان الديني.
4- وفقا لما يطرحه هذا النموذج، فان ما نتوقع الحصول عليه من الدين، ولا سيما الفقه، هو ذاته ما نتوقع الحصول عليه من مجموعة العلوم الانسانية. وهذا يثير الاشكالات الاتية:
أ) انه ممتنع لانه اوسع كثيرا من مجال عمل العلوم الانسانية، حيث يشمل كافة القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية لكافة المجتمعات الانسانية.
ب) هذا النوع من التوقعات، اي تنظيم الدنيا وتدبير المجتمع، غير مقبول من الدين، واثباته بحاجة الى دليل، والدليل غير قائم.
ت) اذا كان تشخيص المصلحة العامة وتحديد مقتضيات الزمان والمكان، أمور عقلائية، اي غير دينية، وهي الى حد ما متعلقة بالموضوعات وليس الاحكام، فما الدليل على ان هذه الامور يجب ان تفوض الى الفقيه؟
المقاربة الثالثة: الاسلام المقاصدي
المشكلات المنظورة في المقاربتين السالفتين، دعت الى طرح نموذج بديل، يمكننا ان نسميه “الاسلام المقاصدي”. يحاول هذا المنهج الجمع بين نقاط قوة المقاربتين الاولى والثانية، والتخفف من الاشكالات الواردة عليهما. يلحظ هذا المنهج عددا من النقاط. أولها المحافظة على مكانة الدين ودوره في الحياة، وعدم تهميش بعده الروحي. ثانيا: مجال اشتغال الدين في هذه المقاربة اضيق من المقاربتين السابقتين، لكن نفوذه اقوى وأعمق. ثالثا: هذه المقاربة تجعل الدين اكثر قدرة على مواجهة الاسئلة الجديدة التي تطرح عليه، والتعامل مع ما يتوقعه انسان العصر الجديد من الدين. كما انها تستبعد من اطار الدين، الكثير من الامور التي ما عادت ملائمة لهذا العصر.
الاسلام خاتم الاديان. وهو دين لكافة الازمان والامكنة. مما يقتضي ان يعتمد على القيم والاعراف والاحكام الحكيمة، العادلة والعقلائية. التعاليم الخاصة بالايمان والعقيدة، القيم الاخلاقية واحكام الفقه العبادية، وكذا بعض القواعد في فقه المعاملات، تشكل الجزء الاصلي من الدين. وهي عابرة للزمان والمكان ودائمة.
اما في فقه المعاملات، اي الاحكام غير العبادية، فان مؤثرات الزمان والمكان تتدخل بصورة اساسية في تشكيل موضوعها. كافة الاحكام الجزائية والعقوبات، الاحكام المدنية، الشؤون الدولية، الحقوق الاساسية، التي لبعضها جذور في الكتاب والسنة، وهي جميعا مما يصنف تحت عنوان المعاملات، هذه الاحكام كانت في زمن صدورها حكيمة وعادلة وعقلائية، والا لم تصدر من قبل الشارع الحكيم. لم يكن اي من الاحكام المندرجة تحت عنوان المعاملات، ظالما او خشنا او غير عقلائي، في عرف العقلاء في ذلك الزمان.
الاحكام التي تشملها دائرة المعاملات لا يمكن اعتبارها جميعا توقيفية او تعبدية. فغالبها وضع لتحقيق مصلحة عقلائية، قابلة للادراك والتشخص من جانب عامة الناس، او أهل العلم والتخصص فيهم. ونعلم ان الشارع لم ينشيء المعاملات التي تتعلق بها تلك الاحكام، فقد كانت قائمة تنظمها أعراف المجتمع المحلي. فقام الشارع بامضائها بذاتها او مع بعض التعديلات. ولذا يمكن القول ان احكام الاسلام في هذا المجال، كانت اقرب الى الحاشية على الاعراف التي كانت سائدة وقت نزول النص. بديهي ان اعراف ذلك الزمان ليست تعبدية ولا مقدسة، والا لم يستخدمها العقلاء. لقد شرعت هذه الاحكام من اجل تحقيق العدالة، وضمان المصالح الدنيوية للمجتمعات الانسانية.
من ناحية ثانية لا يمكن انكار حقيقة ان قضايا البشر، سيما في الدائرة الاجتماعية، وكذا اعراف المجتمعات الانسانية، قد مرت بتحولات عميقة. كثير من المسائل التي كانت في القرون السالفة تعتبر عادلة وجزء من النظام الاخلاقي للمجتمع، تعتبر اليوم ظالمة ومخالفة لسيرة العقلاء. مسائل القانون الدولي قبل مباحث القانون العام، ومباحث القانون العام قبل الحقوق الجزائية والعقوبات، وهذه المسائل قبل مباحث الحقوق المدنية، تعرضت لتحولات وتغييرات عميقة جدا. أما الفقه العبادي فالواضح انه لم يتعرض لذلك القدر من التحولات التي نالت بقية دوائر الفقه.
نظرا لان العدالة معيار الدين، وليس الدين معيار العدالة. ونظرا لان العقلانية هي معيار دائرة الاجتماعيات وفقه المعاملات، يمكن الاستنتاج ان الاحكام الفقهية ستبقى محل اعتبار ومتمتعة بالحجية، طالما بقيت ملبية لمقتضيات العدالة، ولم تتعارض مع سيرة العقلاء. فمن البديهي ان لا يقبل مذهب العدلية بوجود احكام متعارضة مع سيرة العقلاء ومنافية لمعايير العدالة، فهل يمكن القول ببقاء اعتبارها وحجيتها مع وضوح هذا التعارض؟
التعارض اليقيني لأي حكم مع سيرة العقلاء، او تنافيه مع معايير العدالة، او ثبوت ان المفاسد المترتبة عليه اكثر من المصالح، هو الدليل الذي يكشف لنا ان هذا الحكم مؤقت وغير دائم. يعني ان مثل هذه الاحكام كانت متناسبة مع مقتضيات عصر النص، وليست تشريعات دائمة او ثابتة.
لقد وضع الشارع هذه الاحكام، لانه رآها ضرورية لتلبية احتياجات البشر وضمان مصالحهم، في زمن النص والازمنة المشابهة له. لو لم يضع الشارع تلك الاحكام مع الحاجة الماسة لاهل ذلك العصر اليها، لقيل انه مقصر في أداء حق الرسالة الى المخاطبين بها ومن شابههم من سائر الناس. لكن – من جهة ثانية – لو قرر هؤلاء الناس ان الاحكام التي نزلت مقيدة بحاجات وظروف زمانهم ومكانهم، قابلة للتمديد، بحيث تمسي ثابتة ودائمة في كل عصر ومكان، فهذا يعني انهم لم يستوعبوا هدف البعثة وروح الاسلام.
الاسلام المقاصدي يعني التوجه الجدي لاهداف الاسلام ومعناه وغاياته المتعالية. ومنها عدم تقديم الاحكام والاطر العملية على الاهداف والغايات. في الاسلام المقاصدي نعتبر الاحكام مطلوبة بالعرض، وان الغايات مطلوبة بالذات، الاحكام وسيلة للوصول الى الغايات.
الاحكام الشرعية وسيلة لبلوغ الغايات العليا للدين. وكل وسيلة تبقى معتبرة، حتى توصل الى غايتها. فاذا احرزنا – يقينا لا ظنا او احتمالا – ان طريقا ما لم يعد موصلا الى غايته، اي انه فقد صفته كطريق، فعندها سيسقط اعتباره، وسنبحث عن طريق جديد يوصلنا الى الغاية العليا التي هي مقصد الدين.
لا بد من التأكيد على اننا لا نرمي من وراء الشرح السابق، الى ان كافة احكام الفقه غير العبادي قد فقدت اعتبارها بالفعل. غاية ما نقصده ان هذا احد الاحتمالات الجدية. فالاخذ بعين الاعتبار مقتضيات الزمان والمكان، بناء على ضوابط مذهب العدلية وتعاليم الكتاب والسنة، لا معنى له غير هذا.
وبناء عليه فان ملاك اعتبار الحكم وحجيته واستمراره، هو عبور الحكم من بوابة اختبارين مهمين: اولهما ان لا يكون مخالفا للعدالة. والثاني ان لا يكون متنافيا مع سيرة العقلاء. من الواضح ان كلا الضابطين يرجع في مآله الى ملاك واحد، هو عرف العقلاء الذي يتقرر معيار العدالة بالرجوع اليه. لكن اهمية العدالة تدعو الى تمييزها عن سائر الضوابط والمعايير العقلائية.
اما الاحكام التي لم تنجح في الاختبار السابق الذكر، فهي تعتبر احكاما متغيرة ومشروطة بشروطها الخاصة. اذا انكشف انتفاء المصلحة المنظورة منها، او احرزنا تنافيها مع سيرة العقلاء او العدالة، فقد علمنا ان زمان صلاحية هذه الاحكام قد انتهى.
بديهي ان استبعاد الحكم المنتهي الصلاحية، يستدعي وضع حكم بديل للتعامل مع موضوع الحكم القديم. فمن الذي يضع هذا الحكم وما هي قيمته الدينية؟
الجواب: ان وضع الحكم الجديد ليس في عهدة الفقيه ولا الولي الفقيه. لأن التشريع حق خاص لله والرسول (ص). بل يمكن القول انه من حيث المبدأ لا نملك دليلا على ان هناك في الواقع حكما غير الحكم المنسوخ، ينبغي البحث عنه. ان البديل الطبيعي للاحكام المنسوخة، هو القوانين العقلائية التي توضع بالرجوع الى العقل الجمعي للشعب. وهذه لا تعتبر دينا ولا تنسب الى الدين.
بناء على هذا، فانه ليس لدينا احكام دينية متغيرة جديدة، وان التشريع الديني يبقى في يد الشارع. ليس من الصحيح ان توضع الاحكام وفق معايير العقل والعرف، ثم تنسب الى الدين. يضاف الى هذا ان حصر الاحكام الدينية في الثوابت العادلة والعقلائية الموجودة في الكتاب والسنة، يقينا خطر السقوط في مأزق العقل الظني وما يترتب عليه.
تبني هذا المنهج سيؤدي بالطبع الى تقليص نطاق عمل الفقه. ومع الوقت سيظهر لنا ان بعض الاحكام الشرعية ليست من الثوابت ، فتنتقل الى دائرة المتغيرات ، التي تفقد صلاحيتها مع مرور الزمن. لكن مع الاهتمام بالابعاد الواقعية للدين، سيجد المتدينون فرصة أوسع لتعميق الايمان وارتقاء المعرفة الدينية.
قبول الاسلام المعنوي المقاصدي، سينهي احتمالات التعارض بين التعاليم الواقعية للاسلام، وبين العدالة وسيرة العقلاء والحداثة. وبناء عليه ستكون الاحكام الشرعية وسيلة لبسط العدالة، تحقق المعايير العقلائية وانجاز المصالح العامة. اذا قبلنا ان الاحكام الفقهية ليس لها صفة الموضوعية، وليست مطلوبة لذاتها، فكل حكم شرعي سيبقى قائما، طالما بقي وسيلة فعالة لصون غايات الدين واغراضه او للوصول اليها. فاذا تبين لنا بعد التحقيق انه لم يعد وسيلة فعالة للغاية المنظورة، فسيخرج من دائرة الاحكام الشرعية، كي يودع في ارشيف الاحكام المتغيرة.
تشخيص التوافق او التعارض بين الحكم الشرعي من جهة، وبين ضوابط العدالة وسيرة العقلاء من جهة أخرى، يرجع الى عرف الخبراء في امور الدين وعلماء الدين، سواء كانوا من المشتغلين بالبحث الفقهي او سواه. هذه المهمة الجليلة تستلزم تمتع هؤلاء الاشخاص بالادراك العميق للدين والنصوص الدينية، اضافة الى المعرفة العلمية بمقتضيات العصر، وسيرة العقلاء ومعايير العدالة. ان عرف العلماء والمتخصصين في مختلف مجالات العلوم الانسانية، وتشخيص الغالب بينهم، هو الطريق الامثل لتحديد ما يطابق سيرة العقلاء، ومعرفة مقتضيات الزمان والمكان.
يمكن تلخيص نموذج الاسلام المعنوي المقاصدي في النقاط التالية:
1- ملاك اعتبار الاحكام الشرعية في اي زمان ، هو كونها عادلة وموافقة لسيرة العقلاء.
2- الاحكام الشرعية كانت في عصر النص عادلة ، عقلائية وطبيعية. هذه الضوابط شرط حدوث وشرط بقاء لدينية الحكم. واي حكم لا يحوز تلك الضوابط في هذا الزمان، يعني انه لا ينتمي لدائرة الاحكام الثابتة، وسيخرج من الدائرة الفعلية للدين.
3- الشارع هو الله والرسول فقط. غير المعصوم لا يمكن ان يتولى مهمة التشريع. الاحكام التي تخرج من دائرة التشريع بسبب افتقادها الى ضوابط العدالة والعقلانية، لا يحل محلها حكم بديل، بل يجري تكييف موضوعاتها في إطار القوانين العقلائية، من دون نسبتها تكلفا الى الدين.
4- في هذا النموذج تتقلص دائرة الفقه والشريعة بالتدريج. لكن دائرة الدين تزداد عمقا. اي حكم فقد فاعليته كطريق لتحقيق الغايات الدينية، سوف يسقط. الطريق الديني هو الطريق الذي حدده الله ورسوله.
لا بد من القول ونحن نختتم هذه المقالة، ان الوصول الى غايات الدين ليس قصرا على هذا الطريق. ومن الناحية الفنية فان مبدأ العدالة وسيرة العقلاء، ربما لا تعتبران معيارا دقيقا ومنضبطا. لكن من جهة ثانية فان الحدود التي تقيد هذين المعيارين، هي ذاتها حدود الفكر والمعرفة الانسانية. ليس لدينا – نحن البشر – طريق غير هذا الطريق، ان اردنا استيعاب الوحي.
لا يمكن القول ان نموذج الاسلام المقاصدي خال من كل اشكال. لكن بحسب المقارنة مع النموذجين السابقين، فانه يحمل قدرا اقل من الاشكالات، وهو يقدم بديلا اكثر قابلية لاستيعاب الحاجات الدينية للانسان المعاصر، واكثر قابلية للصمود في وجه التحديات التي تجابه الدين والمؤمنين.
[1] حول الحركة الدستورية، انظر اروند ابراهيميان: تاريخ ايران السياسي ، ترجمة مجدي صبحي ، عالم المعرفة (الكويت 2014) الفصل 2 ، ص 57. أنظر ايضا حسن كريم الجاف: موسوعة تاريخ ايران السياسي، الدار العربية للموسوعات (بيروت 2008) 3/303
[2] الطباطبائي مفسر واستاذ فلسفة معروف في الوسط الديني الشيعي. توفي 1981. لمعلومات عن حياته، انظر ويكي شيعه (25 يونيو 2018) https://goo.gl/29mSHD
[3] لتفاصيل حول الحكم الولائي وتمييزه عن انواع الحكم الاخرى ، انظر علي إلهي الخراساني: حجية حكم الحاكم عند اليقين بمخالفته للواقع ، مجلة نصوص معاصرة (19 ابريل 2015) https://goo.gl/md1BEi
[4] محمد حسین الطباطبائي: مقالات تاسيسية في الفكر الاسلامي، تعريب خالد توفيق، مؤسسة ام القرى للتحقيق والنشر (1415هـ) ص 105 https://ia800908.us.archive.org/17/items/42389743279833/mqalat-tasesiah.pdf
[5] مقالات تاسيسية، نفس السابق.
[6] مقالات تاسيسية، ص 112.
[7] مقالات تاسيسية ص 114.
[8] محمد حسين النائيني: تنبيه الامة وتنزيه الملة ، تحرير توفيق السيف ، (ن. أ. 2014) ص 132. http://talsaif.blogspot.com/2014/10/blog-post_19.html
[9] محمد باقر الصدر فقيه ومفكر معروف ، اعتقل في ابريل 1981 وقتل مع شقيقته آمنة. لبعض التفاصيل عن حياته، انظر ’السيرة الذاتية للإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر’ ، مؤسسة الصدرين للدراسات ، (اطلعت عليه في 27 يوليو 2018) http://www.alsadrain.com/sader1/
[10] لنقاش مفصل حول الفكرة ، انظر ذبيح الله نعيميان: نظريّة «منطقة الفراغ» بوّابة التشريع لقوانين الدولة، نصوص معاصرة (15 أكتوبر 2017) https://goo.gl/Dnbyxt
[11] محمد باقر الصدر: لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية في إيران ، ضمن كتاب “الاسلام يقود الحياة” ، ط4 انتشارات دار الصدر ، (قم 1429هـ) ص 19 http://aljawadain.org/pdf/book-library/PDF/388.pdf
[12] روح الله الخميني ، كتاب البيع ، ن. إ. (كتابخانه مدرسه فقاهت) ج2 ص 472 http://lib.eshia.ir/10116/2/472
[13] روح الله الخميني: رسالة الى السيد علي خامنئي بتاريخ 16 دي 1366 هـ.ش (15-5-1408) صحيفه امام 20/451 www.imam-khomeini.ir/fa/c207_51482/?ppage=451&utm_source=tg
[14] الخميني: منشور روحانيت 3-12-1367ه.ش (15-7-1409هـ) صحيفه امام 21/273 http://www.imam-khomeini.ir/fa/C207_44699 الفقرة ذاتها في ص 289
[15] رسالة الى اعضاء مجمع تشخيص النظام، 8 دي1367، (19 -5-1409) صحيفه امام 21/217 http://www.imam-khomeini.ir/fa/C207_44658/
[16] الخميني: رد على رسالة اية الله قديري – 2-7-1367 صحیفه امام 21/149 http://www.imam-khomeini.ir/fa/C207_44610/
ترجمة الدکتور توفيق السيف
نشر في مجلة الكلمة، العدد 99، لبنان، صيف 2018، صص 141-165
لقراءة المقالة بصيغة PDF او تنزيلها، انقر هذا السطر
اصل المقالة باللغة الفارسیة: از اسلام تاریخی به اسلام معنوی، ایلول 2001، کتاب حقّ النّاس: اسلام و حقوق بشر (حقّ النّاس: الإسلام وحقوق الإانسان)، تهران، کویر، 2008، ص 15-34.