بصيرة السيستاني في العراق وعمى الألوان عند الخامنئي في إيران

 

يشهد العراق مع لبنان وإيران منذ أسابيع احتجاجات شعبيّة نادرة، كانت السمة المشتركة فيها الاحتجاج على تدهور الواقع الاقتصادي وفساد الساسة ولزوم التغييرات الأساسية في الطبقة الحاكمة.

وعلى الرغم من سوابق الفجوات المذهبية والدينية في العراق ولبنان، ولكن المظاهرات الأخيرة في هذين البلدَين لم تصطبغ بلون الطوائف الدينية والعِرقيّة، إذ برزت مظاهرات شعبيّة وعابرة للدين والمذهب والطائفة، حتّى أن حضور الشيعة المحتجّين في هذه المظاهرات قد لفت الأنظار.

ورغم القوّة العسكرية والأمنية التي يتمتّع بها حزب الله اللبناني، التي قد تفوق قوّة الجيش اللبناني، ولكن الاحتجاجات في هذا البلد قد اندلعت على خلاف رغبة حزب الله، ولم تأتِ منسجمة مع مصالحه ومصالح داعمه الرئيس، أي إيران. لقد نجحت المظاهرات اللبنانية من ناحيتَين، فإنها أوّلاً أدّت إلى استقالة رئيس الوزراء، ليتحقق أحد المطالب الرئيسة لدى المحتجين، وثانياً لَمْ تُقمع المظاهرة اللبنانية لتعاون الجيش والقوّات العسكرية مع المتظاهرين، ولم تخلّف قتلى وجرحى. بمعنى أنّها حافظت على سلميتها، وهذا ما يُحسَب فخراً ومكسباً للشعب اللبناني والحكومة اللبنانية.

 

التجربة العراقية وبصيرة السيستاني

أ. إن مظاهرات العراقيين التي طالت أسابيع عدّة على الرغم من إصرار المتظاهرين ومطالبتهم المكررة فإنّها لم تؤدّ إلى تغيير الحكومة. والأسوء من ذلك ضُّرِّجَ مالا يقلّ عن 250 شخصاً من المتظاهرين السلميين بدمائهم وأزهقَت أرواحهم على يد القوّات الأمنية.

رُفِعَت في هذه المظاهرات شعارات ضدّ تدخّلات الجمهورية الإسلامية في العراق؛ فلطالما كانت الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط صدّام موالية لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران. رغم ذلك كانت المظاهرات في المدن الشيعية مثل كربلاء والنجف إلى جانب بغداد والبصرة لافتة للأنظار. وفي طبيعة موقفه إزاء هذه الأحداث اعتمد السيّد الخامنئي طريقته المعهودة وراح يتّهم أمريكا وبعض دول الخليج الفارسي بتنظيم المظاهرات في لبنان والعراق لإخلال الأمن في هذَين البلدَين، واعتبر الحفاظ على الأمن أهمّ من تلبية مطالب الشعب العراقي.

ب. بعد مرور يومَين على وصايا قائد الجمهورية الإسلامية أعلن السيّد السيستاني، بوصفه المرجع الأعلى للشيعة والفقيه الأبرز في الحوزة العلميّة في النجف، عن مساندته التامّة لمطالب المحتجّين العراقيين، وأدان للمرّة الثانية مهاجمة المتظاهرين العراقيين، وأعلن بصريح العبارة: إنّ معركة الإصلاح التي يخوضها الشعب العراقي الكريم إنما هي معركة وطنية تخصّه وحده، والعراقيون هم من يتحملون أعباءها الثقيلة، ولا يجوز السَّماح بأن يتدخل فيها أي طرف خارجي بأي اتجاه. وقد طالب السيّد السيستاني بإيقاف سفك الدّماء وأدان بشدّة الاعتداء على المتظاهرين السلميين بالقتل أو الجرح أو الخطف أو الترهيب أو غير ذلك، ودعا إلى ملاحقة ومحاسبة كلّ من تورّط في شيء من هذه الأعمال المحرّمة شرعاً والمخالفة للقانون وفق الاجراءات القضائية. وشدّد على الجهات المعنية بعدم الزجّ بالقوات القتالية بأيّ من عناوينها في التعامل مع الاعتصامات والتظاهرات السلميّة، خشية الانجرار إلى مزيدٍ من العنف. وقد حدد السيّد السيستاني الحلول الكفيلة بتجاوز المشاكل في العراق في احترام إرادة الشعب العراقي وإدارة البلد عن طريق الاستفتاء والانتخابات وإجراء الاصلاحات طبقاً لرأي المتظاهرين العراقيين.

لقد لاقى موقف السيّد السيستاني المساند للمتظاهرين العراقيين العُزَّل في مواجهة القوّات الأمنية الحكومية ترحيباً واسعاً لدى الأوساط الشعبية لدى الشيعة والسنّة، وحتّى بين الأقليّة المسيحية. لم يتسنَّم السيّد السيستاني أيّ منصبٍ رسميّ في الحكومة العراقية، ولكنّ نفوذه وسلطته المعنويّة تبلغ حدّاً لا يتسنّى لأيّ مسؤول حكوميّ تجاهل إرشاداته ووصاياه. فإن المرجع الأعلى لشيعة العراق يساند حقوق النّاس كافّة بإزاء ظلم القادة العراقيين وسفكهم للدماء، ولا يُرجى مِن علماء الدّين المتقين شيء غير ذلك.

 

التجربة الإيرانية وعمى الألوان لدى الخامنئي وروحاني

يعرض المقال في هذا القسم ثلاثة أمور:

أ . القائد ورئيس الجمهورية في مواجهة احتجاجات النّاس المشروعة

وفي مقابل المشهد العراقي انتفض النّاس في إيران بنحوٍ عفويّ على أعقاب الارتفاع المفاجئ لأسعار الوقود. أطلق السيّد الخامنئي قائد الجمهورية الإسلامية في أولى تصريحاته تسمية الأشرار على المتظاهرين، وسلّط الضوء على أعمال التخريب والحرق التي حدثت في احتجاجات النّاس المشروعة، وأكّد بأن الاضطرابات الأمنية ما هي إلا مؤامرة من أعداء الجمهورية الإسلامية وأياديهم في الداخل. وعقب ذلك باشرت القوّات الأمنية وحفظ النظام بمهامّها، لينتج عن ذلك المئات من القتلى وآلاف الجرحى والآلاف من المعتقلين.

وبالطبع يُعدّ السيّد الخامنئي في إيران قائداً للقوّات المسلّحة وولي الأمر المطلق، ورئيس الجمهورية اسماً ورسماً هو روحاني. والأخير أيضاً وعلى خلاف تصريحاته المتباينة في الأسابيع الماضية، لم يرَ في الاحتجاجات الشعبية سوى التخريب وحرق الممتلكات العامّة والإخلال بالأمن العام وأعمال الشغب التي يمارسها مرتزقة القوى الأجنبية، وراح على غرار القائد يساند قمع المتظاهرين بنحوٍ تام.

نَطَقَ ثلاثة من مراجع التقليد المقرّبين من الحكومة قبل تصريحات القائد، ودعوا إلى ضرورة إعادة النظر في القرار المتخذ بشأن أسعار الوقود. ولكن بعد مساندة القائد لم يُسمَع منهم أيَّ صوت. وصرّح أحد مراجع التقليد المقرّبين من التيّار الإصلاحي بأنّ الطريق الذي انتهجه المسؤولون في البلاد في الأحداث الأخيرة غير صحيح، داعياً إلى التخطيط والتشريع الصحيحَين في هذا المجال.

ولكن للأسف لم يبادر حتّى الآن أيّ واحدٍ من كبار رجال الدين ومراجع التقليد وأصحاب المناصب الرفيعة بإدانة ممارسات رجال الأمن في سفك دماء المتظاهرين على غرار الإدانة التي أعلن عنها السيّد السيستاني. إن رجال الدين الحكوميين في الجمهورية الإسلامية بدلاً من الدفاع عن النّاس، صاروا ينتهجون طريقة الحكومات المستبدّة على مدى التاريخ، إذ حددوا موقفهم بمسألة الأمن، متجاهلين حقوق النّاس المشروعة. وهنا لنا أن نتسائل، أين وكيف يتسنّى للنّاسِ رفع احتجاجهم على المسؤولين الحكوميين وعلى قراراتهم المخالفة للعقل، بحيث لا يُعدّون ضمن الأشرار وعملاء الأجانب ومِمَن يتحكّم بهم العدوّ؟

ب. مَن هم الذين يقومون بتخريب الممتلكات العامّة؟

من المؤكّد أن تخريب الممتلكات العامّة وإحراقها هو عمل غير صحيح، أيّاً كان الفاعل. هنالك أربعة فئات قد تقوم بهذه الأعمال: 1. الشَّرذمة والعصابات الإجرامية التي تنتشر في أطراف المدن؛ 2. المجموعات المنتظمة والمناوئة في الداخل والمدعومة من أعداء الجمهورية الإسلامية؛ 3. بعض المتظاهرين الغاضبين الذين يحتجّون على قرارات المسؤولين وعلى السياسات العامة المعتمدة لدى نظام الجمهورية الإسلامية؛ والفئة الرابعة رجال الأمن بالزيّ المدني لتشويه صورة التظاهرات ولتحريف الرأي العام.

ما قام به القائد ورئيس الجمهورية هو تسليط الضَّوء على الفئتَين الأولى والثانية (أي: الشَّرذمة والعصابات الإجرامية، والمجموعات المناوئة المنتظمة)، وعمموا هؤلاء على كلّ المظاهرات الشعبية ذات المطالب المشروعة. لا يمكن أن ننكر وجود الفئتَين الأولى والثانية، ولكنَّ المبالغة في عددهم ونسبة حضورهم في الشارع، ولا سيّما التأكيد على أن هاتَين الفئتَين تمثّل جمهور المحتجّين، وإن المعترضين الحقيقين هم على هامش التظاهرات، كلّ ذلك ما هو إلا خداع للنّاس. فمن المستبعَد جدّاً أن تكون لأمريكا وإسرائيل والسعودية مثل هذه القوّة لتحشيد النّاس مِن خلال أنصار النظام الملكي البهلوي ومنظّمة مجاهدي خلق وسائر الأطراف المتحالفة، وأن ينظّموا مظاهرات في أزيد من مئة مدينة إيرانية.

إن ما لَمْ يتطرّق إليه القائد ورئيس الجمهورية هو دور رجال الأمن العسكريين وشبه العسكريين في تحفيز الشباب الغاضبين وسَوْق المظاهرات السلميّة نحو العنف والتخريب والحَرق. فقد سبق أن قام الحرس الثوري في عاشوراء سنة 2009 بتنظيم مجاميع من الشرذمة والعصابات الإجرامية لتشويه صورة الحَراك الأخضر. فتلك الأطراف التي قامت بحرق صالة سينما ركس إبّان أحداث الثورة لاتّهام نظام الشّاه، ما الذي يمنعها من حرق المصارف ومحطّات الوقود لاتّهام النّاس؟! واولئك الذين فجّروا حرم الإمام الرضا (ع) في حزيران 1994 واتّهموا فيها منظمة مجاهدي خلق، ما الذي يمنعهم من القيام بمهمّة مماثلة؟ وإن جرائم القتل المتسلسلة التي قامت بها عناصر وزارة الاطلاعات في خريف 1998، قد نسبها القائد في خطبة صلاة الجمعة إلى الموساد والسي آي أي. وبعد ذلك عرّضوا زوجة سعيد إمامي وآخرين إلى التعذيب ليقرّوا بنفس ما قاله القائد!

إن ستّين مليون فرد من الشعب الإيراني مشمولين بتسلّم الدعم الحكومي المالي، وهذا يعني أن ثلاثة أرباع سكّان البلد فقراء. هذه هي النتيجة المنطقية المترتّبة على سياسات الجمهورية الإسلامية غير العقلانية وغير التخصصية. مَن لا يعترف بالاحتجاجات المشروعة لدى المضطهدين فإنّه مُصاب بعمى الألوان السياسي. هذا هو نتاج الاقتصاد المقاوم الذي ينادي به السيّد الخامنئي. إن الموارد الهائلة التي تصرفها الجمهورية الإسلامية لمغامراتها ولتصدير الثورة في سوريا والعراق ولبنان واليمن وفلسطين وغيرها من الأماكن مِن دون إذن نوّاب الشعب الإيراني ومِن دون علمه، لو كانت تصرفها داخل إيران لما ارتفع مستوى الفقر إلى هذا الحدّ، ولما شمل أغلبية الشَّعب الإيراني.

ج. ملاحظتان مهمّتان

إن احتجاج الطبقات الوسطى وذات الدخل القليل هو واحد مِن حقوقها القانونية والشرعيّة، وسفك دماء هؤلاء المتظاهرين الأبرياء تظلّ وصمة عار في جبين الجمهورية الإسلامية. إن عدد قتلى الاحتجاجات التي حدثت في 1999 و2009 و2017 و2019 في تزايد، والنظام الحاكم لم يعلن حتّى الآن عدد الضحايا الذين قُتلوا في الشوارع. طبقاً لتقديرات منظمة العفو الدولية وبحسب تقسيم المحافظات والمدن فإن هذا العدد قد بلغ حتّى اليومَين الأخيرين115 شخصاً. وثمّة إحصائيات أخرى تفوق هذا العدد بضعفين أو ثلاثة أضعاف. لو كان لمجلس الشورى الاستقلال والشجاعة فإنّه مُطالَب بحسب القانون والشّرع باستدعاء وزير الداخلية إلى المجلس، واستجوابه بخصوص كلّ فردٍ قُتِلَ في هذه المظاهرات بنحوٍ مستقل. لو كان هذا العدد من القتلى حاصلاً في بلدٍ يحكمه القانون لخضع مسؤولو البلد إلى الاستجواب. ولكن مع بالغ الأسف كلّما كانت الأمور عسيرة وباهضة في الجمهورية الإسلامية فإن أرواح النّاس رخيصة جدّاً.

من جملة الإشكالات التي يوردونها هي أن الاضطرابات في إيران ما هي إلا نتائج للعقوبات المشددة التي فرضها ترامب، وبالتالي فإنّها خطّة أمريكية ومُدانة. لا شكّ في أن المسؤولين في البيت الأبيض فرحون لاندلاع هذه المظاهرات، ولكن لا يمكن إدانة الاحتجاج على سياسات الجمهورية الإسلامية بمثل هذا الدليل، وأن نعدّها احتجاجات أمريكية. إن حقوق الإنسان في إيران منتهكة، وهذه حقيقة؛ والأمم المتحدة وأمريكا والاتحاد الأوربيّ يدينون إيران لهذا السبب. فبناءً على ذلك هل يمكن أن نقول بأنّ انتهاك حقوق الإنسان في إيران مجرد خدعة لأنَّ أمريكا تتهمها بذلك؟! مِن أوضح الأمثلة على هذا الأمر هي الأحكام القضائية الصادرة بحقّ نشطاء البيئة. إن الولايات المتحدة وسائر المخالفين لنظام الجمهورية الإسلامية يستخدمون نقاط ضعف النظام لصالح أهدافهم. ولكن لا يمكن إنكار نقاط الضعف هذه. وهذا ما ينقلنا للحديث عن العلاقة بين السياسة الأمريكية الخاطئة في فرض العقوبات المشددة على الشعب والحكومة الإيرانية وسياسة الجمهورية الإسلامية غير العقلانية على الصعيدَين الداخلي والخارجي، إذ يتطلّب شرح ذلك مجالاً ومقالاً آخر.

 

23 تشرين الثاني 2019