مراجعة لـ حقوق النساء في الإسلام:
من العدالة النسبية إلى الإنصاف
تمهيد
حقوق المرأة موضوع ذو جدل واسع في الأدبيات الإسلامية المعاصرة، يحركه شعور عميق بأن ما ورثناه من تعريف لهذه الحقوق، لا يتلاءم تماما مع روح الشريعة التي تدعو إلى العدل والإنصاف في كل تعاملاتها. كما أنه يتناقض بشكل حدي مع مبادىء حقوق الإنسان، التي تطورت في سياق تجربة العالم المعاصر.
التشديد الفقهي على التمايز بين المرأة والرجل سبب آخر للحرج. فالمبررات التي تعرض لهذا التمايز تبدو غير متطابقة مع ما نشهده في الحياة الواقعية في عالم اليوم.
تستهدف هذه المقالة توسيع النقاش في الموضوع، من خلال قراءة نقدية لرؤية الفقه التقليدي والمبررات التي يطرحها. وتقديم بديل ينطلق من اجتهاد جديد في أصول الفقه ومصادر الشريعة. وهذا يتلاءم مع رؤية الكاتب التي طرحها في مقالات أخرى.
يقترح الكاتب مفهوم العدالة المساواتية egalitarian justice كأساس لمنظور حقوق الإنسان، ولا سيما حقوق المرأة الذي هو موضوع النقاش في هذه المقالة. وقد استعملنا مفهوم “الإنصاف = fairness” بصورة موازية لأنه الأقرب في الثقافة العربية إلى المفهوم السابق الذكر. وهو يطابق مفهوم العدالة لاجتماعية المتداول في الفلسفة السياسية المعاصرة، سيما في مقاربة الفيلسوف المعروف جون راولز، في كتابيه “نظرية في العدالة” و”العدالة كانصاف”. العدالة موقف ذهني كلي تجاه الذات والغير، أما المساواة فهي الظهور التطبيقي لهذا الموقف في معاملة الغير. ويقع “الإنصاف” – حسب فهمي – في المسافة بين المفهومين، فهو يتصل بالعدالة من جهة والمساواة من جهة أخرى.
عرّف المناوي الإنصاف بأنه “استيفاء الحقوق لأربابها واستخراجها بالأيدي العادلة والسياسات الفاضلة، وهو والعدل توأمان، نتيجتهما علو الهمة وبراءة الذمة، باكتساب الفضائل واجتناب الرذائل”.[1] وطبقا لجون راولز فإن الإنصاف fairness يتجلى في التحرر من الانحيازات السلبية المسبقة تجاه الآخرين. الإنسان المنصف سيفهم الآخرين ويعاملهم على النحو الذي يتمنى أن يعاملوه. يوصف النظام الاجتماعي بأنه عادل إذا تبنى مبدأ الإنصاف دليلا في التعاملات الداخلية. هذا يعني – وفقا لراولز – أن لكل اعضاء المجتمع نفس الحقوق. وفي حالات التفاوت التي لا يمكن تلافيها، فإن اعتبارها منصفة، يخضع لشرطين: أ- أن ترتبط بوظائف ومواقع مفتوحة للجميع على قدم المساواة. ب- أن تكون حالات التفاوت هذه لصالح الأعضاء الأقل قدرة على التمتع بالإمكانات والفرص المتاحة في المجال العام، حتى يصلوا إلى المتوسط العام للمجموع[2].
يجادل الكاتب بأن مفهوم الإنصاف أو العدالة المساواتية هو المفهوم الأقرب إلى روح الشريعة. وهو يتفق مع الفقهاء والمفسرين، الذين صرفوا النصوص الواردة في الكتاب والسنة إلى مفهوم العدالة النسبية (الإستحقاقية)، الذي ينسب إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو، لأن الظرف العام في عصر الوحي كان يعتبر هذا المفهوم عادلا وعقلائيا، وما كان هذا الظرف يتحمل مستوى أعلى.
لكنه يجادل بأن هذه التشريعات ظرفية، تعالج قضايا واقعية قائمة، وليست نهائية. بمعنى أنها لا تعكس الرؤية النهائية للشارع. وهو يعتقد أن الظرف الحالي ملائم للتخلي عن تلك التشريعات، لأنها ما عادت تطابق الواقع وليست عادلة أو متناسبة مع روح الدين.
من حيث المبدأ، تنصرف العدالة المساواتية/الإنصاف إلى معنى المساواة الكاملة بين الجميع. أما “العدالة الإستحقاقية” فهي تفريع على ذلك المعنى، بتقييد المساواة باستحقاق الطرف المعني. بمعنى أن هناك من يستحق المعاملة المتساوية وهناك من لا يستحق. وهذا التصريف يطابق مفهوم المساواة النسبية / التناسبية التي تعني أن المساواة صحيحة ضمن الشرائح أو المجموعات التي يشترك أعضاؤها في صفاتهم. لكنها لا تتضمن مساواة لهذه المجموعة بالمجموعات الأخرى. فالمساواة بين النساء صحيحة، لكن المساواة بين مجموع النساء ومجموع الرجال غير صحيحة.
فكرة الإنصاف التي يقترحها الكاتب تعني المساواة بين الجميع دون تمييز، إلا إذا كان التمييز قائما على نفس مبدأ العدالة المساواتية/الإنصاف، أو سبيلا للوصول إليها. مثلما شرحنا في السطور السابقة.
الفرضيات الرئيسية
نوقشت حقوق المرأة في الفكر الإسلامي التقليدي على أرضية العدالة الإستحقاقية. هذا المفهوم والمبدأ الملازم له، أي المساواة النسبية/التناسبية [3] proportional، يواجه في العصر الحاضر إشكالات عديدة. تجادل هذه المقالة بأن في الإمكان إعادة بناء المسألة (حقوق المرأة في الإسلام) على أرضية العدالة المساواتية ومبدأ التكافؤ الأصلي، كما ورد في الكتاب والسنة.
لضرورات علمية بحتة، يعالج الكاتب المسألة في إطار الفقه الشيعي الأصولي، معتمدا منهج الاجتهاد في الأصول[4]. ونشير إلى أن الفقه السني المقاصدي، وكذا المفكرين الإسلاميين الإصلاحيين (من يطلق عليهم أحيانا وصف الإسلاميين الليبراليين) قد توصلوا إلى نتائج مقاربة، كلا من خلال منهجه الخاص.
الفرضيات الأولية لهذه المقالة على النحو التالي:
أولا: أن أحكام النساء في القرآن والسنة مؤسسة على أرضية العدالة.
ثانيا: أن أحكام النساء في الكتاب والسنة قد وضعت بصورة مبرهنة ومدعومة بالأدلة.
ثالثا: العدالة أصل سابق على الدين. وأن تحديد المقاربات والمناهج في إطارها أمر عقلي وفلسفي.
رابعا: الآيات والروايات التي تعالج حقوق المرأة، يدل بعضها بشكل إجمالي على العدالة وعدم التمييز، وبعضها ظاهر في العدالة الإستحقاقية والمساواة التناسبية.
خامسا: إن العلماء المسلمين، وهم في الأعم الأغلب من الذكور (بمن فيهم المفسرون والمحدثون والمتكلمون والفقهاء والأخلاقيون والفلاسفة والمتصوفة) انصرف فهمهم للعدالة إلى العدالة الاستحقاقية، وانصرف فهمهم للمساواة إلى المساواة التناسبية. كان هذا الأمر في الماضي ولازال حتى الآن على نفس المنهج.
سادسا: التفاوت البيولوجي والعاطفي بين المرأة والرجل، أمر لا يمكن إنكاره.
سابعا: موضع البحث هو تلك الأحكام المتعلقة بالنساء، التي أعطتهن حقوقا أقل أو أكثر، لا لسبب إلا لكونهن نساء. هذه الأحكام توجد غالبا في مجالات الحقوق المدنية والجزائية. أما الشريحة الأوسع من أحكام الشريعة، التي تنظم الحقوق التجارية والعبادية، وكذا أمور العقيدة والأخلاق، فليس في أحكامها تفاوت بين الرجل والمرأة، وهي خارجة عن مجال بحثنا الحاضر.
تجادل هذه المقالة في مسألتين:
أولهما: أن العدالة المساواتية والتكافؤ الأصلي/الطبيعي بين الناس، أكثر انسجاما مع روح القرآن والمعايير الإسلامية.
ثانيهما: أن الآيات والروايات التي يستند إليها في تبرير التفاوت الحقوقي بين المرأة والرجل، ليست مانعة للعدالة المساواتية والتكافؤ الأصلي.
تتألف المقالة من أربعة أقسام. أولها إيجاز لأهم الأدلة العقلية والنقلية التي تبرر التساوي والتفاوت الحقوقي. القسم الثاني مخصص لتحرير منظور العدالة الاستحقاقية وتقرير أدلته. في القسم الثالث شرح لمفهوم العدالة المساواتية/الإنصاف والتكافؤ الأصلي، وبيان ملاءمته لروح القرآن والمعايير الإسلامية. كما يعرض القسم الرابع الآيات والروايات التي يُستند إليها في تبرير التفاوت الحقوقي بين الرجل والمرأة، وإمكانية مراجعتها بناء على منظور العدالة المساواتية.
الجزء الأول
أهم الأدلة النقلية والعقلية التي تبرر التساوي والتفاوت الحقوقي
استعراض الآيات والروايات المتعلقة بحقوق المرأة في الكتاب والسنة، يوفر نوعين من الأدلة: يتحدث أولها عن النساء والرجال على نحو متماثل، دون أي تفاوت في الحقوق. بينما يدل النوع الثاني على تفضيل جنس الرجال على جنس النساء. ولذا فهي تعطي للرجل حقوقا أكثر، وتلزمه في الوقت نفسه بحماية المرأة.
وبين الأدلة العقلية، لدينا دليل العقل المستقل الذي يحكم بالحسن الذاتي للعدل والقبح الذاتي للظلم (والتمييز في الحقوق دون مبرر، واحد من وجوه الظلم). وسنستعرض هنا أهم الروايات والآيات ذات العلاقة، على سبيل التمثيل، ثم نناقش الدليل العقلي.
اولا- الآيات الدالة على تساوي الجنسين:
وهي تنقسم إلى خمسة أصناف: 1- التساوي في الخلق 2- التساوي في الآخرة 3- التساوي في الحقوق والتكاليف 4- التساوي في الثواب والعقاب الدنيوي 5- التساوي في الحياة الزوجية.
- الآيات الدالة على أن البشر جميعا، رجالا ونساء، خلقوا من جوهر واحد. ومفادها ينفي أي ربط بين القيمة والفضيلة وبين الجنس. أن جنس المخلوق لا دخل له في كرامته أو قربه من الخالق سبحانه. وبالتالي فلا يمكن اتخاذ الجنس بذاته مبررا للتفاضل بين الرجل والمرأة. ومن هذه الآيات قوله تعالى “يَا أَيهَا النَاس إنَا خَلَقنَاكم من ذَكَر وَأنثَى وَجَعَلنَاكم شعوبًا وَقَبَائلَ لتَعَارَفوا إنَ أَكرَمَكم عندَ اللَـه أَتقَاكم – الحجرات 13”. تؤكد هذه الآية أن التنوع أصل في الخلق، وغرضه المعرفة والتعارف. أما الكرامة والقرب من الله، فهما ثمرة التقوى.
- الآيات الدالة على أن الله يحاسب الرجال والنساء في الآخرة، على نحو واحد،ون جنس المكلف لا يزيد أو ينقص من ميزانه. إنما يفوز الناس أو يخسرون يوم القيامة بقدر ما حملوا من إيمان، وما فعلوا من أعمال صالحة. كما في الآية ” مَن عَملَ صَالحًا من ذَكَر أو أنثَى وَهوَ مؤمن فَلَنحييَنَه حَيَاةً طَيبَةً وَلَنَجزيَنَهم أَجرَهم بأَحسَن مَا كَانوا يَعمَلونَ – النحل 97″ ومثلها الآية 35 من سورة الاحزاب التي تذكر صفات الناجين المغفور لهم، وتنص على الاشتراك في هذه الصفات بين الرجال والنساء “إن المسلمينَ وَالمسلمَات وَالمؤمنينَ وَالمؤمنَات وَالقَانتينَ وَالقَانتَات وَالصادقينَ وَالصادقَات وَالصابرينَ وَالصابرَات وَالخَاشعينَ وَالخَاشعَات وَالمتَصَدقينَ وَالمتَصَدقَات وَالصائمينَ وَالصائمَات وَالحَافظينَ فروجَهم وَالحَافظَات وَالذاكرينَ اللهَ كَثيرًا وَالذاكرَات أَعَد الله لَهم مغفرَةً وَأَجرًا عَظيمًا -الاحزاب 35”.
- الآيات الدالة على تساوي الحقوق والتكاليف“وَالمؤمنونَ وَالمؤمنَات بَعضهم أَوليَاء بَعض يَأمرونَ بالمَعروف وَيَنهَونَ عَن المنكَر وَيقيمونَ الصَلَاةَ وَيؤتونَ الزَكَاةَ وَيطيعونَ اللَـهَ وَرَسولَه أولَـئكَ سَيَرحَمهم اللَـه – التوبة 71” وهي تقول بوضوح أن كلا من الرجل والمرأة أهل للولاية على بعضهم البعض، وكلاهما مكلف بفريضة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. بديهي أنه لولا أن المرأة مساوية في الذات والقيمة للرجل، لما أقر القرآن بأهليتها للولاية على الرجال والنساء، وما كلفها بوظيفة الإصلاح[5].
- الآيات الدالة على التساوي في العقاب والثواب الدنيوي والأخروي، مثل الآيتين “ليدخلَ المؤمنينَ وَالمؤمنَات جَنات تَجري من تَحتهَا الأَنهَار خَالدينَ فيهَا وَيكَفرَ عَنهم سَيئَاتهم وَكَانَ ذَلكَ عندَ الله فَوزًا عَظيمًا * وَيعَذبَ المنَافقينَ وَالمنَافقَات وَالمشركينَ وَالمشركَات الظانينَ بالله ظَن السوء عَلَيهم دَائرَة السوء وَغَضبَ الله عَلَيهم وَلَعَنَهم وَأَعَد لَهم جَهَنمَ وَسَاءَت مَصيرًا – الفتح 5-6” والآية “وَلَولا رجَال مؤمنونَ وَنسَاء مؤمنَات لم تَعلَموهم أَن تَطَؤوهم فَتصيبَكم منهم معَرة بغَير علم ليدخلَ الله في رَحمَته مَن يَشَاء لَو تَزَيلوا لَعَذبنَا الذينَ كَفَروا منهم عَذَابًا أَليمًا – الفتح 25” والآيتين “يَومَ تَرَى المؤمنينَ وَالمؤمنَات يَسعَى نورهم بَينَ أَيديهم وَبأَيمَانهم بشرَاكم اليَومَ جَنات تَجري من تَحتهَا الأَنهَار خَالدينَ فيهَا ذَلكَ هوَ الفَوز العَظيم * يَومَ يَقول المنَافقونَ وَالمنَافقَات للذينَ آمَنوا انظرونَا نَقتَبس من نوركم قيلَ ارجعوا وَرَاءكم فَالتَمسوا نورًا فَضربَ بَينَهم بسور له بَاب بَاطنه فيه الرحمَة وَظَاهره من قبَله العَذَاب – الحديد 12-13” ومثلها الآيات 38 من سورة المائدة، و2، 3، 26 من سورة النور. وجميعها يدل على أن الرجل والمرأة يواجهان نفس الثواب والعقاب على أعمالهم الدنيوية، من دون فرق.
- الآيات الدالة على التساوي في الحياة الزوجية. مثل الآية “أحل لَكم لَيلَةَ الصيَام الرفَث إلى نسَائكم هن لبَاس لكم وَأَنتم لبَاس لهن – البقرة 187” وكذلك الآية “وَمن آيَاته أَن خَلَقَ لَكم من أَنفسكم أَزوَاجًا لتَسكنوا إلَيهَا وَجَعَلَ بَينَكم موَدةً وَرَحمَةً إن في ذَلكَ لَآيَات لقَوم يَتَفَكرونَ – الروم 21”. هذه الآيات تشير إلى تساوي الرجل والمرأة في الحياة الزوجية. فخلق الرجل والمرأة من الآيات التي يدعونا الخالق سبحانه للتأمل فيها. والنص ظاهر في أن وجود كل منهما سبب لسعادة الآخر واطمئنانه وسكون نفسه.
ترى ألا يدعونا هذا البناء المنطقي إلى اعتبار المساواة بين الجنسين أرضية لفهم الآيات الأخرى المتعلقة بالعائلة في القرآن؟
ثانيا: دلالة العقل على أصالة المساواة في الحقوق
نجادل هنا بأن العقل المستقل يحكم بالمساواة الكاملة في الحقوق بين الجنسين. لكني أود التمهيد للنقاش بذكر النقاط الآتية لتوضيح إطار الموضوع:
- إن الافعال بذاتها تنطوي على حسن أو قبح. بعضها حسن بذاته وبعضها قبيح بذاته، سواء وصل إلينا تأكيد شرعي لهذا الوصف أو لم يصل. وهذا جوهر مسألة “الحسن والقبح العقليين” وفحواها من المسلمات المعروفة عند العدلية (الشيعة والمعتزلة)[6].
- الدعوى الأصلية للأصوليين، زبدتها أن العقل المستقل قادر على تشخيص الحسن والقبح في الأفعال. وأن الشارع حين يحكم بكونها على هذا النحو، فإنه لا ينشيء قيمة الفعل، بل يمضي حكم العقل. هذا الرأي مما اتفق عليه معظم الأصوليين في مقابل الاخباريين من الشيعة والسنة. أما هؤلاء فرأيهم أن الحسن والقبح أوصاف شرعية تترتب عليها أحكام، ولا يرون للعقل دورا في تحديد ماهية الحسن والقبح، ولا تشخيص مصاديقهما أو الحكم بناء عليه، قبل وصول الخطاب الشرعي[7].
- العقل مؤهل للحكم بالوجوب والحرمة، اعتمادا على الملازمة بين حكمه بالحسن والقبح وبين الحكم الشرعي.
- الحكم الشرعي المؤسس على قاعدة الملازمة، حجة. بمعنى أنه في هذا الإطار، قد يحكم العقل بقبح أو حسن فعل ما، ولا يصلنا حكم معتبر بخلافه من جانب الشارع. في هذه الحالة نعتبر القطع العقلي أساسا صحيحا للحكم الشرعي. هذا أيضا مدعى أكثر الأصوليين. وعارض الإخباريون هذا الرأي مع أقلية من الأصوليين.[8]
بين هذه النقاط التمهيدية الأربع، تتمتع الأولى والأخيرة بأهمية خاصة. يعني أنه إذا ثبتت الأولى (أي قبلنا بأن الفعل بذاته ينطوي على حسن أو قبح) وسلبت المانعية من الأخيرة (بمعنى أنه لم يثبت لدينا وصول خطاب شرعي معتبر ينافي حكم العقل)، فقد تمت المسألة.
بيان النقطة الأولى (الحسن الذاتي للعدل):
الأحكام المتعلقة بـ حقوق النساء، تصنف ضمن الموضوعات التي نبحث لها عن أحكام ملائمة لموازين العقل السليم. ونعلم أن رعاية العدل في توزيع الحقوق بين الرجال والنساء أمر حسن في ذاته. لأن العدل من المستقلات العقلية التي أجمع عقلاء العالم قديما وحديثا على حسنها ولزومها. وأن العدالة في الحقوق من أبرز تجليات قيمة العدل، وهي – امتدادا لهذه القيمة – صحيحة دائما، مثلما العدل صحيح دائما. أن العقلاء بما هم عقلاء يمتدحون العدل في توزيع الحقوق ومن يقوم به، ويذمون الظلم والتمييز بين أهل الحقوق، كما يذمون من يقوم به أو يساعد عليه. وهذا من الأمور التي لا يعارضها عاقل.
السبب في حكم العقل العملي بحسن العدالة الحقوقية (وقبح الظلم والتمييز) هو ملاءمتها لطبيعة الإنسان. حيث أن الإنسان يدرك النفع العام في العدالة الحقوقية، كما يدرك الضرر الناشيء عن الظلم والتمييز الحقوقي، وهو ضرر قد يكون ماديا وقد يكون معنويا. ولأنه يدرك الجانبين، فهو يسعى لتحصيل المنافع الناشئة عن العدل، ورفع المفاسد الناشئة عن الظلم والتمييز الحقوقي.
ينبغي هنا إيضاح أن إدراك قيمة العدل أمر كلي وليس شخصيا. بمعنى أن العدالة بشكل عام، تنطوي على مصلحة، وأن التمييز في الحقوق بشكل عام ينطوي على ضرر. وهذا التقرير عام ودائم، حتى لو حصل أن شخصا ما، أو حادثة ما تضمنت قيمة معاكسة. لأن الأساس في الحكم العام هو تجربة عقلاء العالم في كل الأزمان والأمكنة، وليس الحوادث القليلة أو فهم عدد قليل من الأشخاص.
يفهم العقلاء جميعا أن مصلحة النوع الإنساني رهن بالعدالة. وأن هذه مصلحة أولية لازمة لحفظ نظام الكون والمجتمع، بل وبقاء النوع الإنساني. ثم إن وسيلة هذا الإدراك هو العقل بما هو عقل. ولذا فإن العدل ممدوح عند العقلاء. وعلى نفس النسق، فإن التمييز في الحقوق – بوصفه نقيضا للعدل – مفسدة كبرى لنظام الحياة. وبناء عليه يراه العقل من حيث كونه عقلا، قبيحا وغير ملائم لطبيعة الإنسان وجودة الحياة، وهو موضع ذم عند الجميع.
لم يحكم العقل بحسن العدالة في توزيع الحقوق، إلا حين تيقن ضرورتها لصون نظام المجتمعات الإنسانية وكمال النوع الإنساني. ولم يحكم بقبح الظلم والتمييز في توزيع الحقوق، إلا حين أدرك ضرره على حياة الإنسان ونظام الكون. ومن هنا نستطيع القول أن حكم العقل بحسن العدل، أساس لحكم العقلاء بمدح الأفعال التي تجسد قيمة العدالة، ثم مكافأة الأشخاص الذين يقومون بهذه الأفعال، باعتبارهم أحسنوا لبني البشر.
وبالمثل فإن حكم العقل بقبح الظلم في توزيع الحقوق، أساس لحكم العقلاء بذم الأفعال التي تتعارض مع قيمة العدالة، أو تنطوي على ظلم وتمييز بين أهل الحقوق، أو تؤدي إلى تفاوت يعارض مقتضيات العدالة. ويترتب على هذا ذم ولوم للأشخاص الذين يقدمون على هذا النوع من الأفعال، باعتبارهم أساؤوا وأجرموا في حق البشر.
على رغم من أن العدالة في الحقوق لها ثمرات كثيرة طيبة، إلا أن حسنها ذاتي. أي أنها بالذات حسنة، وحسنها ليس مشروطا بما يترتب عليها. كما أن الظلم والتمييز يترتب عليه مساويء كثيرة، مثل الكراهية والعنف والأنانية وأمثالها. إلا أن قبحهما متحقق قبل هذه النتائج. نتائج العدل والظلم كاشفة عن حسن الأول وقبح الثاني، وليست علة للحسن أو القبح. كما أن صفة الحسن والقبح ملازمة للموصوف، وليست مشروطة بأي عنوان آخر أو عامل خارجي. كل عدل حسن عقلا، وكل ظلم قبيح عقلا، في ذاته وبذاته.
إذا صح هذا التحليل، وثبت أن العدل الحقوقي بذاته حسن، وأن الظلم الحقوقي بذاته قبيح، نستطيع القول إن أي حكم شرعي ينطوي – قطعا – على ظلم حقوقي، فهو مجروح. لأن الشارع – بحسب مبنى العدلية – من زمرة العقلاء بل رئيسهم، فلا يمكن أن يحكم بما ينطوي على ظلم أو يؤدي إلى ظلم، جل ربنا وتعالى عن هذا.[9]
ثالثا: الأدلة النقلية على تفوق حقوق الرجال على النساء:
أربع آيات من القرآن وحديثان عن الرسول والإمام علي، هي أبرز أدلة التهوين من حقوق النساء ، وزيادة حقوق الرجال عليهن:
- الآية “وَلَهن مثل الذي عَلَيهن بالمَعروف وَللرجَال عَلَيهن دَرَجَة وَالله عَزيز حَكيم – البقرة 228”
- الآية “وَلَا تَتَمَنوا مَا فَضلَ الله به بَعضَكم عَلَى بَعض للرجَال نَصيب مما اكتَسَبوا وَللنسَاء نَصيب مما اكتَسَبنَ وَاسأَلوا اللهَ من فَضله إن اللهَ كَانَ بكل شَيء عَليمًا – النساء 32”
- الآية “الرجَال قَوَامونَ عَلَى النسَاء بمَا فَضَلَ اللَـه بَعضَهم عَلَى بَعض وَبمَا أَنفَقوا من أَموَالهم – النساء 34”
- الآية “أَوَمَن ينَشَأ في الحليَة وَهوَ في الخصَام غَير مبين – الزخرف 18”.
- رواية البخاري عن النبي (ص): حدثنا عثمان بن الهيثم حدثنا عوف عن الحسن عن أبي بكرة قال لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”.[10]
- خطبة الإمام علي بعد حرب الجمل، حول نقص النساء: “معاشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول. فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن. وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد. وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الإنصاف من مواريث الرجال. فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر. ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر”[11].
الجزء الثاني
حقوق النساء وفقا لنظرية العدالة الإستحقاقية
في هذا الجزء سنعرض أولا مباني حقوق النساء عند المرحوم محمد حسين الطباطبائي[12] صاحب تفسير الميزان، الذي قدم عرضا نموذجيا للرؤية الغالبة عند القائلين بالعدالة الإستحقاقية فيما يخص حقوق المرأة، وما يتعلق بها من أحكام في الشريعة الإسلامية. يتمتع الطباطبائي بمكانة علمية رفيعة واعتبار تام في المدرسة الفقهية التقليدية. ولهذا، ولأنه عاش في زمن قريب من زمننا، فإن رؤيته تعتبر نموذجا قابلا للتعميم عن الفهم السائد في مجامع العلم الديني الشيعية.
موجز رؤية الطباطبائي كما يلي:
تشارك المرأة الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الاجتماعية، عدا موارد يقتضي طبعها عدم المشاركة. وأبرزها عدم تولي مناصب الحكومة والقضاء والقتال، بمعنى المقارعة لامطلق الحضور أو المساعدة، كمداواة الجرحى مثلا. ولها نصف سهم الرجل في الإرث. وعليها الحجاب وستر مواضع الزينة، وطاعة زوجها فيما يرجع إلى التمتع منها. وعوض ذلك بجعل نفقتها في الحياة على الرجل، الأب أو الزوج. وعليه حمايتها حتى عن سوء الذكر. ولها حق تربية الولد وحضانته، وأن العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها، كما ألزم الرجل بالرفق بها في جميع الأحوال. [13]
ولا يجب عليها في جانب العلم، سوى العلم بأصول المعارف وفروع الدين، كأحكام العبادات والقوانين الجارية في المجتمع. أما في جانب العمل، فليس عليها واجب عدا طاعة الزوج، فيما يتمتع به منها.
أما تنظيم الحياة بعمل أو حرفة، وكذا المداخلة في أمور المجتمع، كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة، فلا يجب عليها شيء من ذلك. لكنه جائز، بل يمكن أن يكون الاشتغال بها فضلا تتفاضل به وفخرا تتفاخر به.[14]
ومقتضى الفطرة المساواة بين الأفراد في الوظائف والحقوق الاجتماعية. لكن ليس مقتضى هذه التسوية المنبثقة من مبدأ العدالة الاجتماعية، أن يتاح كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع. مقتضى العدالة – ويفسر بها معنى المساواة – أن يعطى كل ذي حق حقه، وأن ينزل منزلته. فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه، من غير أن يزاحم حق حقا، أو يهمل أو يبطل حق بغيا أو تحكما. وهذا ما تشير إليه الآية “ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة- البقرة 228” فالآية تصرح بالتساوي، مع أنها تقرر في الوقت عينه اختلاف النساء عن الرجال.[15]
ثم إن اشتراك الجنسين في أصل المواهب الوجودية، أي الفكر والإرادة المولدتين للاختيار، يستدعي اشتراكهما في حرية الفكر والإرادة، أعني الاختيار. فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية، عدا ما منع عنه مانع. وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه.[16]
لكن مع اشتراك الجنسين في العوامل المذكورة، فإن المرأة تختلف عن الرجل من جهة أخرى. فالمرأة في المتوسط العام متأخرة عن المتوسط العام للرجال، في الخصوصيات الكمالية من بنيتها، كالدماغ والقلب والشرايين والأعصاب والقامة والوزن. واستوجب ذلك أن جسمها ألطف وأنعم، كما أن جسم الرجل أخشن وأصلب. وأن الإحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة، أغلب عليها من الرجل. كما أن التعقل أغلب على الرجل من المرأة، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.[17]
ولذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف الاجتماعية، التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين، أعني التعقل والإحساس. فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال، لاحتياجها المبرم إلى التعقل. والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة. وخص مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل. وجبر ذلك له بالسهمين في الارث. وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين، ثم تعطي المرأة ثلث سهمها للرجل، في مقابل نفقتها، أي للانتفاع بنصف ما في يده. فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكا وعينا، وثلثيه للنساء انتفاعا. فالتدبير الغالب إنما هو للرجال، لغلبة تعقلهم، والانتفاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن.[18]
فإن قلت: ما ذكر من الرفق البالغ بالمرأة في الإسلام، يؤدي لتأخرها في الاعمال وعدم رشدها.. قلت ان اللوم يقع على ما أصيب به الإسلام من فقد الأولياء الصالحين، فتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى.[19]
لقد بنى الغربيون على المساواة التامة بين الرجل والمرأة في الحقوق، مع ما في المرأة من التأخر الكمالي بالنسبة إلى الرجل. وعندهم أن تأخر المرأة في الكمال والفضيلة سببه سوء التربية التي دامت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا، مع أن الأصل هو تساوي الجنسين في الطبيعة.
لكن يرد على هذا بأن تجربة المجتمعات منذ أقدم الأزمنة، أظهرت تأخر المرأة عن الرجل إجمالا. ولو كانا متساويين في الطبيعة، لظهر خلافه، ولو في بعض الأحيان، ولتغيرت خلقة بعض أعضائها الرئيسة فشابهت أعضاء الرجل. [20]
ويؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية اهتمامها بتقديم المرأة، ما قدرت بعد على إنجاز المساواة بينهما. ولايزال الرجال متقدمين في جميع ما قدم الإسلام فيه الرجل على المرأة، كالولاية والقضاء والقتال[21].
التفضيل المذكور في قوله “الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض” إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية، أعنى المعاش، أحسن تنظيم، ويصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا. وليس المراد به الكرامة التى هي الفضيلة الحقيقية في الإسلام، وهي القرب إلى الله سبحانه. فإن الإسلام لا يعبأ بشئ من الزيادات الجسمانية، التى لا يستفاد منها إلا للحياة المادية، وإنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله.
وقد تحصل من جميع ما قدمنا، أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل، الذي أوجب تفاوتا في أمر الارث وما يشبهه. لكنها فضيلة بمعنى الزيادة. وأما الفضيلة بمعنى الكرامة التى يعتني بشأنها الإسلام، فهى التقوى أينما كانت[22]
والمراد بالفضل هو تمايز كل من طائفتي الرجال والنساء، في بعض الأحكام التي تتعلق باحدهما دون الآخر، كمزية الرجال على النساء في عدد الزوجات، وزيادة سهم الميراث، ومزية النساء على الرجال في وجوب المهر لهن، ووجوب نفقتهن على الرجال. هذه المزايا تتعلق بما أودعه الله في النفس الإنسانية من حب ورغبة في السعي لعمارة الدنيا. والقيم هو الذي يقوم بأمر غيره، والقوام والقيام مبالغة منه.[23]
أما غيرها من الجهات، كالتعليم والمكاسب والعلاج وغيرها، مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك، والسيرة النبوية تمضي كثيرا منها، والكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن. فإن ذلك لازم ما أعطين من حرية الإرادة والعمل في كثير من شئون الحياة. إذ لا معنى لإخراجهن من تحت ولاية الرجال، وجعل الملك لهن، ثم النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته أيديهن بأي نحو من الإصلاح. وكذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن، ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا. اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قوامة الطاعة في الحضور، والحفظ في الغيبة. [24]
المراد بما فضل الله بعضهم على بعض، هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء. وهو زيادة قوة التعقل فيهم، وما يتفرع عنه من شدة البأس والقوة على الشدائد من الأعمال ونحوها. فإن حياة النساء حياة إحساسية عاطفية، مبنية على الرقة واللطافة. والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهن ونفقاتهن.[25]
ويلزم من عموم هذه العلة (بما فضل الله وبما أنفقوا) أن الحكم المبني عليها مجعول لطائفة الرجال على طائفة النساء، في الجهات العامة التي يشترك فيها الطرفان. فالجهات الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال، كالحكومة والقضاء والقتال الذي يرتبط بالشدة وقوة التعقل، فهي مما يقوم به الرجال على النساء.[26]
لم يبتعد مرتضى مطهري[27] عن النسق الذي اختطه أستاذه. فقد تبنى ذات التأسيس والتبيين الفلسفي للعدالة الإستحقاقية، واعتمده كأرضية للدفاع عن متبنيات الفقه التقليدي فيما يخص حقوق المرأة.
فوفقا لمطهري، “الإسلام يقر المساواة بين حقوق المرأة والرجل. لكنه لا يقر تشابه هذه الحقوق”.[28] “الذي يطرحه الإسلام هو أن المرأة بما أنها امرأة تختلف عن الرجل لكونه رجلاً في جوانب كثيرة. فعالم المرأة غير عالم الرجل، وخلقة وطبيعة المرأة غير خلقة وطبيعة الرجل. وهذا يؤدي بالطبع إلى أن كثيراً من الحقوق والواجبات والعقوبات سوف لا تكون واحدة لكليهما”[29].
“ندعو إلى عدم تشابه حقوق المرأة والرجل، في المجالات التي تختلف فيها طبيعة كل منهما. فننسجم بذلك مع العدل والحق الفطريين، ونؤمن بشكل أفضل سعادة الأسرة، وندفع بالمجتمع إلى الأمام”.[30] “العدالة والحقوق الفطرية والإنسانية تستدعي عدم تشابه المرأة والرجل في بعض الحقوق لا غير….. الشريعة الإسلامية وطبقاً للمبدأ الذي طرحته هي ذاتها، لن تخرج مطلقاً عن محور العدالة والحقوق الفطرية والطبيعية”.[31]
تجد هذا الرأي أيضا عند المرحوم منتظري[32]. فهو مثل الطباطبائي ومطهري، يصرف مبدأ العدالة إلى مفهوم العدالة التناسبية المبنية على الإستحقاق “كل حق وتكليف للمرأة والرجل ينبغي أن يبنى على أساس العدالة. ليس في معنى مساواة الرجل بالمرأة في كافة الجهات، بل بمعنى أن يعطى لكل منهما ما يستحق من حقوق، ويكلف بما يستطيع من واجبات”[33].
خلاصة آراء القائلين بالعدالة النسبية (الإستحقاقية):
أولا- الأصل هو تساوي الجنسين في الحقوق والواجبات، إلا في الموارد التي تقتضي طبيعة كل منهما عدم الاشتراك. وهذا مقتضى الفطرة.
ثانيا- موارد اختلاف حقوق الجنسين وواجباتهما، قائمة على خصال ذاتية ومقتضيات طبيعية غير قابلة للتغيير. هذه الخصال لا يمكن نسبتها إلى سوء التربية أو اجحاف المحيط.
ثالثا-الخصال الذاتية للمرأة التي – بالخلق – جعلتها متمايزة عن الرجل، اثنتان: أ) الحمل وكونها مزرعة لتكون ونمو النوع الإنساني، وأن بقاء النوع الإنساني معتمد عليها بالدرجة الأولى. بسبب الحمل فقد وضعت الشريعة للمرأة أحكاما خاصة. وب) أن طبيعة المرأة قائمة على لطف الجسد وشدة العواطف والأحاسيس، ورقة الشعور. هذه الميزات أكثر تأثيرا في أحوال ووظائف وحقوق المرأة.
رابعا- تترتب على تلك الخصال الخاصة بالمرأة، ميل غالب إلى التجمل من جانب، وعدم قدرتهن على التعقل والاستدلال وإقامة الحجة من جانب اخر. حياة المرأة عاطفية وإحساسية وحياة الرجل عقلانية. والمقصود هو المتوسط العام للرجال والنساء.
خامسا- النساء – بالنظر إلى الخصال المذكورة – في حاجة دائمة إلى رعاية الرجل. الأب قبل الزواج والزوج من بعده. ومن يحتاج إلى راع في أمر العائلة، لا يمكن أن يدير الأمور السياسية أو الدينية أو القضاء في المجتمع. كما أنها بسبب ضعفها البدني معفاة من الحرب.
سادسا-يشترك الجنسان في الفضائل العمومية للدين، مثل الإيمان والعلم والتقوى. ويختص كل منهما بتفضيلات أخرى، مثل اختصاص الرجل بنصيب أعلى في الميراث، وكذا في الشهادة والدية وتعدد الزوجات والولاية والقضاء والقتال، والقوامة. ومعنى القوامة هو تقدم حق الرجل على جميع حقوق المرأة الأخرى، في غير المعصية. كما تختص المرأة بحق النفقة والمهر على الرجل. وعليها الحجاب وتغطية مواضع الزينة وطاعة الرجل وتمكينه من الاستمتاع الجنسي. وفي المقابل فتربية وحضانة الابناء واجب عليه وكذا حماية الزوجة.
سابعا-جنس المرأة من حيث الطبع والتكوين أضعف من جنس الرجل. ومن هنا وضعت الحقوق والتكاليف الشرعية للمرأة، على نحو يتناسب مع ما تستحقه ذاتيا، وهو عادل تماما. حجة القائلين بهذا الرأي أن العدالة ليست التشابه في الحقوق. بل المساواة حيثما كان الطرفان متساويين في المؤهلات. وفي المقابل فإن التفاوت في الأهلية يستدعي تمايزا في الحقوق المتعلقة بتلك المؤهلات.
ملخص الاستدلال في مدرسة العدالة الاستحقاقية
وفقا لرؤية هذه الشريحة من المفكرين، الذين لهم – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – حق الأستاذية على الكاتب، فقد جرى عرض الأدلة العقلية والنقلية على النحو التالي:
أولا- تم اعتبار الأدلة النقلية على المساواة الحقوقية، أرضية أولية للبحث. بمعنى أن الأصل هو المساواة الحقوقية بين الرجل والمرأة، إلا إذا ورد دليل على عدم المساواة.
ثانيا- تبعا لما سبق فإن الأدلة النقلية على عدم المساواة، صنفت كبرهان على أن مواردها تقع خارج الأصل المذكور. في هذه الموارد، اعتبروا الدليل الخاص عليه، أو القيد الذي أخرجه من العموم السابق، بمنزلة القرينة القطعية على التصرف في العام أو المطلق، في كل مورد لا يمكن التمسك فيه بعموم أدلة المساواة الحقوقية.[34]
ثالثا- الاستدلال العقلي على هذه الرؤية، على الوجه التالي: العدالة التي يحكم العقل المستقل بحسنها تعني التعامل المتلائم مع ما يستحقه الإنسان ذاتيا. الأهلية الذاتية/الطبيعية كاشفة عن الحقوق الفطرية التي يستحقها كل شخص، ومفهوم العدل منصرف إلى أداء ما ثبت من حقوق فطرية.
وبناء عليه، فإنه في موارد تساوي الجنسين في المؤهلات الطبيعية/الفطرية، فإنهما يتمتعان – تبعا لهذا –بنفس الحقوق. وفي الموارد التي تتفاوت مؤهلاتهم، فمن الواضح أن حقوقهم الفطرية متفاوتة، ويحصلون تبعا لذلك على حقوق شرعية متفاوتة. القاعدة السارية هي أن المتساوين يعاملون بالسوية، وغير المتساوين يعاملون بصور متفاوتة. وهذا عين العدالة.
لو منحت النساء اللاتي يفتقرن لبعض المؤهلات والإمكانات، ذات الحقوق التي منحت للرجال، أو كلفن بذات التكاليف التي وجبت على الرجال، لاعتبرنا الوجهين عين الظلم. هذا التفاوت في الحقوق ليس تمييزا بل هو عين العدالة. يلزم الإشارة الى ان النساء يحصلن عوضا عن ذلك، على حقوق تتناسب مع ما لديهن من مؤهلات وإمكانات لا يشتركن فيها مع الرجال.
طبقا لهذه الرؤية فإن الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء، التي ذكرت في الفقه الموروث، هي مقتضى العدالة. كما أنها مدعومة بأدلة العقل والنقل. تطبيق هذه الأحكام على نحو صحيح، طريق لنيل السعادة في الدنيا والآخرة. وأن التساوي الحقوقي بين المرأة والرجل غير مقبول شرعا وعقلا.
الجزء الثالث
روح القرآن والمعايير الإسلامية في المقارنة مع العدالة المساواتية /الإنصاف والتكافؤ الأصلي
خصصت هذا الجزء للاستدلال على رجحان العدالة المساواتية/ الإنصاف والتكافؤ الأصلي. وهو يتضمن مناقشة لرؤية المفكرين التقليديين حول حقوق المرأة، ولاسيما أدلتهم العقلية والنقلية. نستعرض أولا جذر مفهوم العدالة الإستحقاقية وتحليل معنى التكافؤ الأصلي. ثم نقيم الأدلة العقلية على رجحان الثانية. وهو تمهيد للمجادلة اللاحقة حول كون العدالة المساواتية/ الإنصاف أكثر ملاءمة لروح القرآن والمعايير الإسلامية.
أولا: من العدالة الإستحقاقية إلى العدالة المساواتية:
عالج أرسطو مفهوم المساواة ضمن نظريته حول العدالة، التي قسمها إلى توزيعية وتصحيحية. العدالة التوزيعية Distributive Justice هي أقدم صور العدالة وأكثرها رواجا. وقد حظيت رؤية أرسطو هذه بقبول عام بين علماء المسلمين في الماضي والحاضر، حيث اعتبروها مطابقة لمفهوم العدالة المذكور في القرآن الكريم وتعاليم الإسلام.
ينصرف مفهوم العدالة في أبسط صورها، إلى المساواة بين الناس في الحقوق. وأبسط درجات المساواة هي المساواة المطلقة أو الحسابية، حيث يتساوى كل فرد مع كل فرد آخر في كل شيء. لكن أرسطو يعتقد أن المساواة في هذا المفهوم ليست عدلا. يتجسد العدل عنده في مفهوم المساواة النسبية/التناسبية proportional، حيث يعامل الناس بحسب استحقاقهم، أي ما يملكون من مؤهلات وما يقدمون – تبعا لذلك – من عطاء. فالأفراد الذين يملكون مؤهلات متساوية، يحصلون على نفس الحقوق. والأفراد الذين يملكون مؤهلات مختلفة، ينتمون الى شرائح اخرى تحصل على حقوق غير ما حصلت عليه الشريحة الأولى.[35]
من الظلم منح الأفراد غير المتساوين حقوقا متساوية. لا يمكن للمرأة أن تحصل على نفس حقوق الرجل، ولا يمكن للعبد أن يحصل على حقوق الحر، ولا يحصل البدو على حقوق سكان المدينة، لأنهم ينتمون إلى شرائح مختلفة في مؤهلاتها وبالتالي استحقاقها. في هذه الرؤية تنصرف العدالة إلى معنى التساوي التناسبي/النسبي. هذا التعريف للعدالة “وضع كل شيء في موضعه وإعطاء كل ذي حق حقه” هو المعنى الذي فهمه حكماء المسلمين من مبنى العدالة الأرسطي.
كان التفسير الأرسطي للعدالة معياريا حتى آواخر القرن الثامن عشر الميلادي. لكن منذ صدور إعلان الاستقلال الامريكي (1776) ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن في الثورة الفرنسية (1789) تراجع مفهوم المساواة التناسبية، وحل محله مفهوم المساواة التامة بين جميع الناس، باعتبارها حقا إلهيا أو طبيعيا. بني مفهوم المساواة الجديد على مبدأ التكافؤ الأصلي، أي أن الناس جميعا يولدون متساوين، وأن التمايزات بينهم تكتسب لاحقا بتأثير التربية، أو كانعكاس للقانون أو النظام الاجتماعي والاقتصادي. رغم هذا التمايز، فإنهم يبقون متساوين في شريحة من الحقوق الأولية التي اعتبرت لازمة لإنسانية الإنسان.
مع مرور الزمن، تطورت هذه الفكرة إلى معنى جديد للعدالة التوزيعية، خلاصته: مع أن الناس يملكون قابليات ومؤهلات متفاوتة، إلا أنهم جميعا بشر. وبناء على هذا، فهم يتمتعون بمكانة متساوية ومن ثم حقوق متساوية. هذا المبنى الحقوقي مبني على ركنين: أولهما أن جميع الناس – من حيث المبدأ – متساوون في الحقوق، حتى لو اختلفت أجناسهم وأعراقهم، وأن التمايز المقبول في الحقوق، هو ما يترتب على المؤهلات المكتسبة لاحقا. الثاني أن الأصل في العدالة التوزيعية هو التساوي الحقوقي، إلا إذا قام دليل مناسب يسمح بالتمييز.[36]
مقارنة المبنيين القديم والجديد للعدالة التوزيعية في مجال حقوق النساء ، يظهر أنه:
أولا: ليس ثمة شك في الاختلاف البيولوجي والسيكولوجي بين المرأة والرجل.
ثانيا: أن الصفات البيولوجية والسيكولوجية للنساء كانت مبنى لاستحقاق النساء حقوقا أقل، بناء على المبنى القديم.
ثالثا: بناء على مبدأ التكافؤ الأصلي، فإن كون المرأة إنسانا، هو الدليل على تساويها في الحقوق مع الرجل.
رابعا: العدول عن مبدأ التساوي في الحقوق، محصور في الموارد التي يقوم دليل مناسب على كون التفاوت عادلا، مثل حق المرأة في الحماية.
في هذه المقالة نستعمل مصطلح “العدالة الإستحقاقية” للإشارة إلى مفهوم العدالة التوزيعية والمساواة النسبية/التناسبية، أي رؤية أرسطو التي قبلها المفكرون المسلمون. كما نستعمل مصطلح “العدالة المساواتية/الإنصاف” وهو مفهوم محرر للعدالة التوزيعية، بناء على أرضية التكافؤ الأصلي.
ثانيا: الأدلة العقلية على تقدم العدالة المساواتية/الإنصاف على العدالة الاستحقاقية
لماذا نعتبر العدالة المساواتية/الإنصاف والتكافؤ الأصلي أكثر معقولية من العدالة الاستحقاقية والمساواة التناسبية؟
في هذا القسم سوف أجيب على السؤال بمحاججة عقلية محضة، وزعتها على ستة وجوه، يمكن دمجها كليا أو جزئيا، لكني فضلت تفصيلها كي يسهل استيعاب المسالة.
الحجة الأولى: العدالة مفهوم سابق للدين. العدل والظلم في أعم معانيهما، قابلان للإدراك بواسطة العقل عند كافة الناس. وقد استوعب الإنسان مفهوم العدالة وتطبيقاتها على ضوء خبرته التاريخية، وبالرجوع إلى العقل الجمعي. لزمن طويل كانت العدالة الإستحقاقية والمساواة التناسبية فكرة غالبة. بناء على هذا جرى تحديد المكانة الطبيعية للنساء والعبيد والسود في موضع أدنى من الرجل، من البشر البيض والأحرار. هذا الهوان الحقوقي كان يعتبر طيلة قرون، مبررا عقليا لمفهوم العدالة المذكور.
لكن هذا المبنى تعرض لنقد جدي في العصر الحاضر. ما عاد عقل الإنسان المعاصر يتقبل مفهوم العدالة الإستحقاقية والمساواة التناسبية، ولا يجده مبررا. لقد تحول فهم الإنسان لذاته وحقوقه، فبات يعتقد بأن كل إنسان له حقوق أصلية، لكونه إنسانا فقط، وبغض النظر عن أصله وجنسه وصفته ولونه. جوهر الإنسانية ليس في صفات الإنسان الخارجية أو إنتمائه الاجتماعي، بل تتعلق بروح الإنسان وطبعه الأصلي، الذي يتماثل فيه جميع البشر. ذلك الجوهر الإنساني هو منشأ كرامة الإنسان واحترامه. وليس للجوهر الإنساني، أو روح الإنسان وطبعه الفطري، جنس ولا عرق ولا لون ولا دين ولا عقيدة سياسية ولا مكانة اجتماعية ولا أي صبغة أخرى.
بعبارة أخرى فإن مفهوم “ذي حق” قد تغير. في الماضي كان الإنسان لا يعرف إلا بوصفه، فهو إما رجل أو امرأة، أبيض أو أسود، حر أو عبد.. الخ. ولهذا كانت الحقوق متفاوتة بين المرأة والرجل، وبين الأسود والأبيض، وبين العبد والحر.. الخ. وكان هذا التمايز يعتبر صحيحا وعادلا عند عقلاء تلك الأزمنة. لكننا نعرف أن عرف العقلاء قد تغير الآن. ولهذا فهم لا يقبلون – مثلا – بانتقاص حقوق الرجل الأسود لمجرد أن لون بشرته مختلف. ولايقبلون أيضا وجود أرقاء، أو بيع وشراء البشر، أو قابليتهم للتملك من قبل بشر آخرين.
نستطيع القول بناء على هذا التحول، أنه إذا كانت المساواة التناسبية معقولة ومقبولة في الماضي، فالمؤكد أن هذا الحال قد تغير الآن. إذا رضينا بعرف العقلاء كمبرر، فإن هذا العرف بات ينظر إلى الإنسان بوصفه إنسانا، ومن دون وصف أو تمييز. فسواء كان رجلا أو امرأة، حرا أو عبدا، أسودا أو أبيضا، فإن كلا منهم إنسان فقط، وأنهم جميعا متكافئون في الخلق والقيمة، ومتساوون في الحقوق الطبيعية المتلازمة مع إنسانية الإنسان. إذا كانت المساواة التناسبية مقبولة في الماضي، فإن التكافؤ الأصلي هو الصادق والمقبول عند عقلاء هذا العصر. ومعنى هذا أن المساواة التناسبية التي تبرر التفاوت في الحقوق بين بني الإنسان، لم تعد صادقة أو مبررة.
الحجة الثانية: إدراك الإنسان المعاصر للعدالة، منصرف إلى مفهومها المساواتي. العدالة في هذا العصر تعني المعاملة المتساوية لجميع الناس. وأن أي صفة أو ميزة في بعضهم، لا تصح مبررا للتمييز بينهم في القيمة أو في الحقوق. كون الإنسان أسود اللون، لا يعتبر مبررا للتهوين من حقوقه كإنسان. وكذلك كونه امرأة لا يعتبر مبررا مقبولا عقلا للتمييز في الحقوق. المساواة بين الناس هي الأصل الوحيد في التعامل معهم والتعامل فيما بينهم. على أن عرف العقلاء يقبل بالعدول عن هذا الأصل في حالات محددة، شرط قيام دليل معتبر يؤكد أن هذا العدول لا يخرج عن دائرة العدالة.
الحجة الثالثة: المساواة التناسبية قائمة على أرضية التمايز الطبيعي، أي كون الناس متمايزين ومختلفين تكوينيا. سلامة هذا التأسيس مشروطة بكونه ناتجا عن فرضية مثبتة في معادلة صحيحة: “ثبت أن > فيجب أن”. بعبارة أخرى: المعادلة المنطقية التي بنيت عليها المساواة التناسبية، تبدأ بفرضية “أن المرأة تختلف عن الرجل بيولوجيا ونفسيا”. وبناء عليه “يجب أن تحصل على حقوق أقل من الرجل”. مناقشة هذا الاستنتاج “يجب أن” تبدأ من الفرضية السابقة له، أي دعوى أن المرأة مختلفة بيولوجيا ونفسيا عن الرجل، اختلافا يستوجب اختلافا موازيا في الحقوق والتكاليف والمكانة.
في الحقيقة فإن المعادلة تتضمن ادعاءين مختلفين، وكل منهما يحتاج إلى برهان خاص به:
- الادعاء الأول: أن المرأة مختلفة – على النحو المذكور أعلاه- بيولوجيا ونفسيا عن الرجل. واثبات هذا الادعاء يتوقف على فحص بيولوجي ونفسي.
- الادعاء الثاني: أن الاختلاف البيولوجي والنفسي يترتب عليه بالضرورة تمايز في الحقوق. هذا الاثبات يحتاج إلى فحص فلسفي. وهو لم يقم بعد.
ينبغي التدقيق في المسألة. فنحن لا ننفي الاختلاف بين الرجل والمرأة. بل على العكس نؤكده. الذي ننكره هو أن ذلك الاختلاف مبرر ضروري للتمييز. بأي دليل فلسفي جرى التحقق من أن الأول “الاختلاف” يستلزم الثاني “التمييز”؟ بأي دليل عقلي جرى إثبات ان التانيث سبب لتقليل الحقوق. ولماذا جرى اعتبار الضعف المادي أو قوة العواطف والمشاعر سببا ضروريا لسلب أو تقليل الحقوق؟
الحجة الرابعة: المساواة في الحقوق عدل، والتمييز في الحقوق ظلم. ليس ثمة شك في الحسن الذاتي للعدل والقبح الذاتي للظلم.
المفكرون التقليديون لا يعتبرون المساواة حسنة ذاتيا. ولا يرونها مصداقا للعدالة. خلاصة رؤيتهم أن العدل متلازم مع الاستحقاق وليس مع المساواة. استحقاق الأفراد لا يترتب عليه بالضرورة مساواة. الاستحقاق يعني أن لكل فرد حق بقدر ما يملك من قابلية، لا أكثر ولا أقل. ما يستحقه العبد والمرأة وغير المسلم، هو تلك الحقوق التي أقر بها عرف العقلاء في الماضي، ومنحت لهم في الفقه التقليدي والقانون القديم. أما مساواة الرجل والمرأة، مساواة العبد مع الحر، مساواة المسلم مع غير المسلم فهي جميعا خلاف العدالة.
وقد يحتجون على هذا بأن ما تقره الشريعة من حقوق للناس، قد تكون فوق ما يستطيع العقل الإنساني إدراكه. ولذا لا يصح تطبيق العدالة بناء على هذا الإدراك القاصر، فهذا عين الظلم في رأيهم.
طيلة قرون، كانت الرؤية التي تربط العدل بالإستحقاق، مبررا لنظام الرق والتمييز الجنسي وغيره. فكيف انكشفت صحة هذا الإستحقاق؟ من أين وبأي دليل قطعي كشفنا أن هذا القدر من الحقوق خاص بالنساء، وذلك القدر خاص بالرجال. ذلك التقدير الأنثروبولجي الذي اعتبروه مبررا للإستحقاق أو التمييز في الحقوق، طيلة مئات السنين، هل هو ذاته مستند الى دليل عقلي؟
التمييز في الحقوق عين الظلم. لأن الله ساوى بين عباده في الكرامة والروح الإنسانية، ومكنهم من القابلية للارتقاء والتعالي، لو حصلوا على فرص متماثلة. وملاك التساوي في الحقوق هو وحدة الجوهر الإنساني لجميع البشر. البشر متساوون من حيث الحقوق لأنهم شركاء في هذا الجوهر الالهي، أي الآدمية والإنسانية. كرامة بني آدم تتجلى في تمتعهم بهذا الجوهر المشترك. يستحق الناس حقوقا متماثلة، لأن جوهرهم متماثل. والمقصود هنا هو التماثل في القابليات والإمكانات بغض النظر عن كونها متحققة فعليا.
يؤمن العدلية بالعدالة الالهية. ويعتقدون أنها سابقة للدين. ونعلم أن العدالة لا تنحصر في الاعتقادات وعلم الكلام. شريعة الله العادل عادلة. والعدل أساس ومعيار لفقه العدلية. ومعيارية العدالة تعني على وجه التحديد معايرة أصل الأحكام الشرعية مع أصل العدالة. تساوي الرجل والمرأة في الحقوق من لوازم العدالة. والتمييز بينهما في الحقوق مصداق للظلم. حقيقة العدالة في زماننا هي العدالة المساواتية. أما العدالة المقيدة بالمفهوم القديم للإستحقاق، فهي – في زماننا هذا – معادلة للتمييز في الحقوق ومصداق للظلم.
الحجة الخامسة: كرامة الإنسان متلائمة مع المساواة التامة في الحقوق. لا شك أن الله كرّم الإنسان بما هو إنسان “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا- الإسراء 70”. أي أن الكرامة جزء من الجوهر الإنساني الذي يشترك فيه الرجل والمرأة. التمييز في الحقوق ينطوي على هدر لأصل الكرامة. لأن انتقاص الشخص متلازم مع انتقاص حقوقه، ومنحه مكانة دون مكانة الآخرين الذين يماثلونه في الجوهر.
لقد أغفل نظام العلاقات والقيم الذكوري القديم أصل الكرامة، حين انتقص من حقوق بعض البشر ومنحهم مكانة أدنى من غيرهم، لا لشيء إلا لاختلافهم في الجنس أو اللون أو العرق. أما في هذا العصر فإن ذلك النظام الذكوري لم يعد هو الحاكم في العالم. ولذا فإن عقلاء العصر لا يرون معنى للعدالة والكرامة من دون المساواة الحقوقية، أي أنهم يعتبرون كرامة الإنسان متلازمة مع العدالة المطلقة والمساواة التامة.
الحجة السادسة: مقتضى العقلانية الدائم هو اختيار الأرجح وترك المرجوح. الأخذ بالمرجوح مع ظهور الأرجح وإمكانيته، مخالف لحكم العقل. إذا كانت عقلانية الأمس قد قبلت بالتمييز في الحقوق بين الجنسين، واعتبرتها مصداقا للاستحقاق والعدالة، فإن عقلانية اليوم تعتبره عين الظلم وهدرا للحقوق الثابتة للإنسان.
دراسة الأحكام الشرعية في الفقه التقليدي، الذي أقيم على أرضية التمييز الحقوقي بين المرأة والرجل، تظهر بشكل قطعي أن التمايز مرجوح، في مقابل مساواة المرأة والرجل في الحقوق. لو سأل أي إنسان منصف وجدانه، فهو بالقطع سيرجح العدالة المطلقة والمساواة الكاملة، على الأحكام التمييزية للفقه التقليدي. هذا الترجيح العقلي ظاهر وقطعي.
ثالثا: دفاع عن تناسب روح القرآن والمعايير الإسلامية مع العدالة المساواتية والتكافؤ الأصلي
لمإذا نعتبر العدالة المساواتية/الإنصاف والتكافؤ الأصلي، أكثر تناسبا مع روح القرآن والمعايير الإسلامية؟ في هذا القسم سأحاول بحث مسألة العدالة في الإطار الكلامي.
أولا: أن العدل معيار للحكم الشرعي
إذا قلنا بأن العدل من المستقلات العقلية السابقة للدين، ترتب عليه – منطقيا – أن المتأخر لا يقيد المتقدم. معنى كون العدل من المستقلات العقلية، هو أن مفهومه يتضح بجهد العقل، وأنه تابع لموازين العقل في تحوله المفهومي والخطابي، وتحديد القول الغالب فيه.
لا خلاف في المكانة الرفيعة للعدل في الإسلام والقرآن والسنة. هذه المكانة مفتاح لمعرفة الدين في الكلام الشيعي والمعتزلي. بمعنى أن القيام بالعدل معيار للمقارنة بين الأديان، وبين الدين واللادين. لهذا نقول بأن الإنسان يختار دينه إذا ثبت له أن هذا الدين قائم على أساس العدل، وأنه يعزز القيام بالعدل. الله جل وعلا عادل. أساس الكون أقيم على العدل. وشرع الله العادل، عادل ومبني على أساس العدل. ثم إن الإنسان في العموم، قادر على إدراك موازين العدل، حتى لو عجز عن تشخيص بعض تطبيقاته وتمظهراته.
بديهي أن القرآن الكريم لم ينشيء مفهوم العدل أو القسط أو الإنصاف. لكنه أقرها وعززها وحببها ودعا الناس إليها. معنى هذا المنهج أن الله سبحانه يريد العدالة القابلة للإدراك بالعقل الذي أنعم به على الإنسان يوم خلقه. لو أراد الخالق سبحانه معنى آخر للعدالة، مختلفا عما تعارف عليه العقلاء، للزم أن يوضح هذا المفهوم الجديد للمسلمين.
في الحقيقة فإن فهم العرف للعدالة، هو الأساس الذي بني عليه المفهوم القديم (العدالة الإستحقاقية). لأن هذا المفهوم هو الذي كان سائدا في الماضي. وبصورة عامة فإن فهم العقلاء لخطاب الشارع، هو الحجة في تطبيق أوامر الشارع. ولا يوجد سبيل آخر للإلزام بالأوامر الشرعية، قبل صرفها إلى فهم عرفي محدد. لأن تنفيذ أمر الشارع مشروط بفهمه من قبل المكلفين، وفهم المكلفين له يتأثر – بالضرورة – بالعقلانية السائدة والمفاهيم والمؤثرات الاجتماعية الأخرى القائمة عند وصول الأمر إلى المكلف.
وبنفس المنهج، نقول إن الفهم السائد بين عقلاء هذا العصر لمفهوم العدالة وتطبيقاتها، هو التفسير الصحيح والوحيد لما ورد في القرآن والسنة، من أمر بالاحتكام إلى ميزان العدل والقسط والإنصاف. بتعبير آخر فان بوسعنا – بناء على ما سبق شرحه – القول بأن الوجوب المسبق لاعتماد معيار العدل في إنشاء الحكم الشرعي، يعني على وجه التحديد اعتماد مفهوم العدالة المساواتية/الإنصاف، وليس المفهوم القديم (العدالة الاستحقاقية) الذي بات منكرا في عرف العقلاء.
إن العدالة التي تحدث عنها الكتاب والسنة، متعلقة بأفعال البشر، وهي قابلة للفهم والإدراك في إطار فهمهم الراهن لفكرة العدل وتوقعاتهم الفعلية من الدين العادل، إلا إذا دلتنا القرائن القطعية على أن مراد الكتاب والسنة من حديثهما عن العدل، مخالف لما يفهمه عقلاء هذا العصر وما يتوقعونه.
ثانيا: العدالة المساواتية أكثر ملاءمة لروح الشريعة
العدالة المساواتية/الإنصاف والتكافؤ الأصلي أكثر ملاءمة لروح القرآن والمعايير الإسلامية. لأن الخطاب الديني متوجه لنوع الإنسان. فهو المخاطب بأمر الله، وهو حامل الأمانة الإلهية الذي تقبل ميثاق الخلق “وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين -الأعراف 172”.
إن جوهر إنسانية الإنسان ليست في قوامه الجسدي، بل في روحه وشخصيته وقدراته الإدراكية. فهذه هي التي تضفي عليه صفة الإنسانية. أما الجسد المادي، فخلاياه تتغير كليا كل بضعة أعوام، بصورة طبيعية. ورغم ذلك فإن هوية الإنسان تبقى ملازمة له، لأنها مرتبطة بالجانب الأول لا بالجسد.
لعل بعضهم يحتج معارضا لهذا التقدير، بمثل القول إن جسد الإنسان جزء من هويته، بدليل اتفاق غالبية المسلمين، على أن الإنسان يبعث يوم القيامة بجسده وروحه. ونرد على هذا بوجوه عديدة، منها أن الجميع متفق على المعاد الروحاني، بينما الجسماني فيه نقاش، لأن بعض المسلمين ينكره. وثانيا أن هذا النقاش كله، أي القول بالطرفين اجتهادي، وليس لدينا نص قطعي يمنع القول الآخر. وثالثا، أنه حتى مع القول بالمعاد الجسماني، فإنه لا أحد يقول بدلالة البعث الجسماني على أن الجسد – مستقلا – مشمول بالتكليف الإلهي.
ما يجعل الإنسان إنسانا، وما يميزه عن سائر الحيوانات، هو هذه الروح الإنسانية التي هي نفحة من روح الله “إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين – ص 71-72”. تمتع الإنسان بهذه النعمة الإلهية، هي التي جعلته مستحقا لتشريف الخالق وسجود الملائكة. لا شك أن كرامة الإنسان متعلقة بهذه الروح الالهية، وليس البدن الترابي. من دون الروح، لا يكون الكائن البشري سوى جسد أوله علقة وآخره جيفة، أي مجرد كتلة مادية قيمتها في وزنها وحجمها، بعيدا عن القيمة العظمى التي أولاها الخالق للإنسان.
لقد خلقنا الله من نفس واحدة “هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها- الأعراف 189” وهي منشأ الإنسان المذكر والإنسان المؤنث. النفس الإنسانية الواحدة هي الحامل للأمانة الإلهية، وهي المخاطب بالحقوق والتكاليف. ليس في النفس مذكر ومؤنث. ثم إن القاعدة الأصلية في التكاليف والحقوق الإنسانية هي التساوي في منح الحق وفرض التكليف. والتمييز بين أصحاب الحق والمكلفين هو الذي يتطلب دليلا قطعيا، لأنه خروج عن القاعدة[37]. هذا هو مقتضى روح القرآن والمعايير الإسلامية.
الجزء الرابع
مراجعة لأدلة التمايز الحقوقي بين الجنسين من زاوية العدالة المساواتية
بعض الأحكام الشرعية التي يستنبطها الفقهاء اعتمادا على معيار العدالة الإستحقاقية، قد تتسبب في وهن الدين الحنيف. وعلى أقل التقدير، فإن هذه الأحكام، لا تعتبر في ميزان العقلانية المعاصرة، عادلة أو أخلاقية، بل هي مرجوحة وغير مقبولة. بعبارة أخرى فان تلك الأحكام تعتبر في ميزان العدالة المساواتية، نوعا من الظلم.
نعلم طبعا أن هناك من يعتبر تلك الأحكام طبيعية، ولا يرى فيها أي عيب. ولذا لا يجد أي مبرر لإعادة البحث فيها أو في أرضيتها ومبرراتها. نقاشنا الحاضر ليس مع هؤلاء. بل مع اولئك الذين يشعرون بالحرج إزاء التناقض المشهود، بين الضرورة النظرية للعدالة في التشريع من جهة، وبين الوجود الواقعي لأحكام شرعية تنطوي على تمييز ظالم في الحقوق، من جهة أخرى.
هؤلاء الذين يلمسون المشكلة، سيقبلون أنه في منهج العدالة الإستحقاقية، ثمة موضع يتعثر فيه الاستدلال. فأين هو موقع التعثر؟
العلماء (أ) بناء على فرضيات خاصة (ب) وباعتماد دليل معين (ج) من الأدلة الدينية (د) توصلوا إلى نتائج (هـ).
وقد جادلنا في الصفحات السابقة الرؤية الذكورية، في فرضياتها المسبقة واستدلالها العقلي على العدالة الإستحقاقية. وقد حان الوقت الآن لنقد الأدلة الدينية على العدالة الإستحقاقية.
في عصر النزول قطع الإسلام خطوات واسعة ارتقت بحقوق المرأة، قياسا إلى وضعها في ذلك العصر. ولا شك أن هذا التطور قد ساعد على ارتقاء منزلة المرأة في العالم. يمكن تقسيم هذا التطور إلى جزئين: تضمن الأول مساواة كاملة بين المرأة والرجل في بعض الحقوق. وتضمن الثاني ارتقاء بحقوق أخرى للمرأة، لكن ليس إلى حد المساواة مع الرجل.
- ترى هل الجزء الثاني، أي الأحكام التي تنطوي على عدم المساواة، هي الكلمة اأاخيرة للإسلام؟ بعبارة أخرى: هل هذه المجموعة من الأحكام تندرج تحت عنوان الأحكام الثابتة والدائمة، أم أنها من الأحكام الموسمية، المؤقتة والمتغيرة؟
إذا اعتبرناها أحكاما ثابتة ودائمة، فسوف نضطر الى تفسيرها باعتبارها متناسبة مع الاستحقاق الذاتي للمرأة. اي ان المرأة بما هي امرأة، تستحق هذا ولا شيء أكثر. اي ان مبدأ العدالة الاستحقاقية هو الصحيح دائما. لكنا نقول بان العالم في ذلك الزمان، وحتى لقرون من بعده، ما كان مستعدا لقبول العدالة المساواتية/الإنصاف، مثلما لم يكن مستعدا لتقبل الالغاء النهائي للرق. ولهذا اراد الشارع معالجة الوضع القائم من خلال برنامج تحول تدريجي، يبدأ بالتعامل مع الوضع القائم، يصلحه تدريجيا، حتى يصل الى الوضع المطلوب.
أي معالجة تدريجية لا بد أن تنطلق من الإقرار بالوضع القائم، دون منحه شرعية تامة. خطوة البداية هي تحديد الاتجاه العام إلى المساواة الحقوقية على نحو إجمالي. بعض المجالات التي لا زالت أحكامها تفتقر إلى القبول العام، حركها الشارع نصف خطوة إلى الأمام، وأجل الخطوة التالية إلى حين يصبح المجتمع متقبلا لها، حين تتطور أفهام الناس فيصبحون جاهزين للأحكام الأعلى درجة. العدالة الإستحقاقية كانت صفة نصف الخطوة الأول، والعدالة المساواتية/الإنصاف هي صفة النصف التالي.
افترض المفكرون التقليديون أن جميع أو غالب تشريعات صدر الإسلام ثابتة ودائمة. إذا كان الأمر على هذا النحو، فينبغي أن تكون هذه الأحكام قادرة على إنتاج ظرف تتجلى فيه العدالة والأخلاق. وأن تكون أرجح من غيرها. بحيث لا ينكرها عقل الإنسان المعاصر. لكن الواقع غير هذا. وهذه قرينة دامغة على أن هذه التشريعات ليست من جنس الأحكام الثابتة. الحكم الثابت والدائم ينبغي أن يكون على الدوام عادلا، أخلاقيا، راجحا على غيره، ومبررا في عرف العقلاء.
نعرف أن أحكاما مثل تفضيل الرجل على المرأة، قوامة الرجل على المرأة، العقاب البدني للمرأة الناشز، جواز تزويج الولي للبنت القاصر دون رضاها، إيقاع الطلاق من طرف الرجل، اعتبار شهادة الرجل معادلة لشهادة امرأتين، دية المرأة نصف دية الرجل، إرث الولد ضعف إرث البنت، إلزام الرجل بالإنفاق على المرأة. هذه الأحكام جميعا مثيرة للجدل، لأن غالب الناس في هذا العصر لا يرونها مطابقة لمقتضيات العدالة، أو أنها لا تؤدي إلى وضع يتسم بالعدالة.
في الآية المباركة “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ -النساء 34” علل القرآن الكريم قوامة الرجل على المرأة بعلتين: أولهما “بما فضل الله بعضهم على بعض” والثانية “بما أنفقوا من أموالهم”. ولا شك أن قوله ” وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ – البقرة 228″ مبني على هاتين العلتين. ذكر الله سبحانه لدليل الحكم، يعني أنه ليس حكما تعبديا وتوقيفيا. بمعنى أن الحكم (القوامة) يبقى قائما طالما بقيت علته (الفضل والإنفاق) قائمة. وحين تذهب العلة، فالمعلول يذهب معها.
وفقا لتفسير المفكرين التقليديين، فإن العلة الأولى تؤكد التفوق الذاتي للرجل على المرأة. أما العلة الثانية فقد صرفوها إلى حكم وجوب النفقة والمهر. وفي بيان العلة الأولى ذكروا التفوق العقلي والقوة البدنية للرجل، مقابل شدة العاطفة والضعف البدني عن المرأة. أما الثانية (الإنفاق) فقد ألغوا عليتها، واعتبروها مجرد شرح على الحكم. ترى هل يمكن القول إن تفضيل الرجل على المرأة في الآية، دائم ودال على أنها دون الرجل في الحقوق؟
إن نقطة القوة في التفسير الفقهي التقليدي، هي استناده إلى آيات صريحة. لكن ما يبدو قويا ومستندا إلى نص صريح، قد لا يكون سوى وجه واحد للحقيقة. ولهذا سأستبق الإجابة على السؤال السابق، بلفت نظر القارىء إلى النقاط الثلاث التالية:
النقطة الأولى: في القرآن الكريم فضل الله بني اسرائيل على سكان العالم، كما في قوله “يابني اسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين – البقرة 47”. وقد تكررت الآية بنفس النص في السورة ذاتها “البقرة 122”. وقال أيضا “وَلَقَد آتَينَا بَني إسرَائيلَ الكتَابَ وَالحكمَ وَالنبوَةَ وَرَزَقنَاهم منَ الطَيبَات وَفَضَلنَاهم عَلَى العَالَمينَ- الجاثية 16″ وقال حكاية عن نبيه موسى في خطاب لبني اسرائيل ” قَالَ أَغَيرَ اللَه أَبغيكم إلَهًا وَهوَ فَضَلَكم عَلَى العَالَمينَ – الأعراف – 140″.
لو أخذنا هذه الآيات بمفردها، فدلالتها على أفضلية بني اسرائيل على بقية البشر، وظهور هذا المعنى فيها، يغني عن أي بيان. لكن دعنا نتأمل في الآيات ضمن الصورة الكاملة للتوجيه القرآني، وليس بمفردها. لا شك أن بني اسرائيل ليسوا أفضل من أمة عيسى وأمة محمد. فكلمة “العالمين” الواردة في الآيات تشير إلى البشر الذين عاصروا بعثة موسى، أي قبل بعثة النبي عيسى والنبي محمد. بمعنى أن هذه الآيات ناظرة إلى قضايا خارجية وليس إلى قضايا حقيقية، أي ناظرة إلى فضل في ظرف زماني ومكاني خاص، وليس فضيلة ذاتية وفطرية في عرق بني اسرائيل.
بنفس المنطق، يمكن القول إن تفضيل الرجل على المرأة في الآيات التي ذكرناها آنفا، قد يكون ناظرا إلى زمن خاص وقضية خارجية، أي ناظرا إلى ظرف واقعي كان قائما في الماضي، حيث كانت الغالبية الكبرى من النساء، وبسبب موقعهن الإجتماعي ونظرة المجتمع، غير متعلمات، ولم يحصلن عن تربية تعادل تربية وتعليم الرجل. لكن هذا لا ينطبق على زمان اخر مثل زماننا، حيث أنه على رغم التفاوت الفعلي بين الجنسين، إلا أن المرأة لم تعد جاهلة ولا متكلة تماما على الرجل في معيشتها، كما أن المجتمعات البشرية تتجه للمساواة بين الجنسين في الحقوق.
النقطة الثانية: تحدث القرآن عن فضل السيدة مريم على سائر نساء العالم “يَا مَريَم إنَ اللَـهَ اصطَفَاك وَطَهَرَك وَاصطَفَاك عَلَى نسَاء العَالَمينَ -ال عمران – 42” فهل المراد كافة نساء زمانها، بصورة القضية الخارجية، أم كافة نساء العالم منذ بداية الخلق وحتى نهاية الكون، بصورة القضية الحقيقية؟
لو أخذنا الآية بمفردها، فنصها ظاهر في معنى الفضل الدائم على نساء البشر في كل الأزمان. لكن مع الأخذ بعين الاعتبار القرينة القطعية الخارجية، فقد اعتبر المفسرون جميعا أن فضيلة السيدة مريم، مثل فضيلة بني إسرائيل، محدودة بظرفها الزماني الخاص. أي أنها وصف لهذا الموضوع بالخصوص، ولاتنطوي على تعريف بحقيقة قائمة بذاتها. وبناء عليه اعتبروها نوعا من القضية الخارجية لا الحقيقية.
في فضل الرجل على المرأة، مورد البحث، نجد أن القرينة الخارجية القطعية، تسمح بالقول إن الآية الكريمة التي تتحدث عن فضل الرجل “بما فضل الله بعضهم على بعض” ناظرة إلى موضوع بعينه في زمان خاص، وليس تعريفا لحقيقة مستقلة. بيان ذلك أنه في ذلك الظرف الزماني، كان العقلاء بما هم عقلاء يرون القوة البدنية والقوى العقلية للرجل، مبررا لاستحقاقه ما يزيد عن حقوق المرأة. في هذا الظرف الزماني نفسه لم تكن المرأة قادرة على العيش، من دون الكفالة المالية والحماية المادية للرجل. طبيعي أنه في ظرف كهذا ستقر المرأة بتفوق الرجل في الحقوق عليها، وأن سيرة العقلاء جرت على اعتبار هذا التفوق الحقوقي عادلا ومنصفا.
أما في ظرف مختلف، حيث سيرة العقلاء وحيث العقلاء بما هم عقلاء، لا يرون التفاوت البيولوجي والبدني والذهني بين الجنسين مبررا للتفاوت في الحقوق، كما أن عموم الرجال والنساء المنصفين لا يعتبرون هذا التفاوت عادلا، بل يرونه عين الظلم والتمييز، وحيث أن كلا الجنسين يشارك فعليا في اقتصاد المجتمع ومعيشة العائلة، فإنه لا يبقى شك في أن تلك الآيات، مثلها مثل الآيات المرتبطة بالرق، تتحدث عن أحكام مؤقتة مرتبطة بظرفها.
وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه الآيات معللة، مثل قوله تعالى”الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا”. وكونها معللة، كاشف عن أن الحكم دائر مدار العلة. وفي الظرف الذي لا تعود العلة قائمة، فإن المعلول (الحكم) سيكون منتفيا أيضا. لو كانت المسألة تعبدية، لما كان ثمة مبرر لبيان العلة. فلما كانت العلة مبينة، فقد فتح الشارع الطريق للبحث والنقاش العقلي في المعلول.
النقطة الثالثة: تحدث القرآن الكريم عن عدم التساوي في توزيع الإمكانات المادية، وتفوق بعض الناس على بعض، واعتبرها أمورا واقعية في حياة المجتمعات، مثل قوله تعالى “أَهم يَقسمونَ رَحمَتَ رَبكَ نَحن قَسَمنَا بَينَهم مَعيشَتَهم في الحَيَاة الدنيَا وَرَفَعنَابَعضَهم فَوقَ بَعض دَرَجَات ليَتَخذَ بَعضهم بَعضًا سخريًا وَرَحمَت رَبكَ خَير ممَا يَجمَعونَ – الزخرف 32” وقال أيضا “اللَـه فَضَلَ بَعضَكم عَلَى بَعض في الرزق – النحل 71” وقال “انظر كَيفَ فَضَلنَا بَعضَهم عَلَى بَعض وَلَلآخرَة أَكبَر دَرَجَات وَأَكبَر تَفضيلًا- الإسراء 21”
من الواضح أن هذه الآيات تنسب التفاوت الاجتماعي والاقتصادي إلى الباري جل وعلا. التفاوت في مؤهلات الناس وقابلياتهم وإمكانتهم أمر لا ينكر. لكن السؤال الكبير الذي تثيره مثل هذه الآيات هو:
– هذه التمايزات الاجتماعية والاقتصادية الواضحة، المتأصلة في الطبيعة المختلفة للبشر، هل تبرر التمييز بين هؤلاء الناس في الحقوق؟
لو سألت القرآن والإسلام، فسيجيبانك بالنفي قطعا. إن تمايز الناس في المعايش والعلم والوظيفة والمكانة وغيرها، لا يصلح مبررا للتمييز بينهم في الحقوق.
فإذا كان الأمر على هذا النحو، فكيف اعتبرنا التفاوت في الإمكانات المادية والذهنية بين الرجل والمرأة، مبررا صالحا للتمييز بينهما في الحقوق الشرعية؟
وتبرز أهمية السؤال بصورة أكبر، حين نأخذ بعين الاعتبار الواقع الذي نعيشه في عالم اليوم. حيث تتحمل المرأة مسؤولية تدبير معيشة العائلة مثل الرجل، وحيث أظهرت المرأة كفاءة في العلم وقدرة على المشاركة في ميدانه، جنبا إلى جنب مع الرجل. لقد كشفت تجربة الإنسان في هذا العصر، أن النساء إذا حصلن على نفس الفرص والمكانة التي يتمتع بها الرجال، فلن تجد أي تفاوت ذي شأن بينهما، في القيام بالوظائف التي تتطلب مؤهلات عقلية أو علمية. لنقل على سبيل التحفظ، إنك لن تجد – على أقل التقدير – تفاوتا، يجعل التمييز الحقوقي قابلا للتبرير، استنادا لموازين العقلانية المعاصرة.
أخذا بعين الاعتبار النقاط الثلاث المذكورة أعلاه، وكذا النقاط التي ذكرناها قبل ذلك، فإنه يمكن استخلاص النتيجة التالية:
مع أن الآيات مورد البحث ظاهرة في العدالة الإستحقاقية والتساوي النسبي، وأننا نقبل بهذا الظهور، إلا أننا لا نقبل دلالتها على كون الحكم ثابتا ودائما في قالب القضية الحقيقية. جميع الآيات والروايات التي تدل على عدم تساوي الجنسين في الحقوق، تتعلق بقضايا خارجية لا حقيقية، أي أنها مشروطة بظروف زمنية ومكانية خاصة، إنها تتحدث عن طبيعة ثانوية مؤقتة للنساء في عصر بعينه، ولا دلالة فيها على صفات ذاتية أو طبيعية في الرجال والنساء، في كل الأزمنة والظروف. هذا أولا.
ثانيا: إن هذه أحكام مؤقتة ومرحلية وليست ثابتة ودائمة.
ثالثا: إذا لم يقبل البعض بكون هذه الأحكام مؤقتة، فإن أدلة العدالة المساواتية/الإنصاف والتكافؤ الأصلي أقوى، إلى حد أنها قابلة لأن تنسخ مؤقتا تلك الأحكام. النسخ المؤقت يعني أنه طالما كانت العدالة المساواتية/الإنصاف تستند إلى اعتبار عقلي مطمئن، فإن الأحكام الدالة على عدم التساوي، تعتبر منسوخة، لأن زمن صلاحيتها قد انتهى.
وقد وصفت الدليل بأنه مؤقت، من باب المبالغة في الاحتياط. وإلا لو أخذنا بموازين العقلانية المعاصرة، فإنه لا يوجد أي احتمال أو إمكانية للرجوع إلى عقلانية الزمن الماضي، او اعتمادها في قضايا تخص هذا العصر.
لقد عرضت في مفتتح هذه المقالة، ثلاثة أنواع من الأدلة تستخدم في نقاش الموضوع. وهي الآيات الدالة على المساواة بين الرجل والمرأة، ثم الأدلة العقلية على أصالة المساواة في الحقوق، وثالثها الأدلة النقلية على تفوق حقوق الرجال على النساء. (راجع الجزء الأول: أهم الأدلة النقلية والعقلية التي تبرر التساوي والتفاوت الحقوقي). ثم عرضت الأدلة العقلية التي يسوقها المفكرون التقليديون لدعم مفهوم العدالة الإستحقاقية (راجع الجزء الثاني: حقوق النساء وفقا لنظرية العدالة الإستحقاقية).
لو تأملنا في مجموع هذه الأدلة، لوجدنا ان الأدلة العقلية على العدالة الإستحقاقية، تؤكد – بنحو ضمني – الأدلة النقلية التي سقناها للبرهنة على أن المساواة في الحقوق أكثر تعبيرا عن روح القرآن ومعايير الإسلام. ومع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية الجمع بين الدلالة المباشرة للآيات المذكورة، والدلالة غير المباشرة (الضمنية) للأدلة العقلية التي يتمسك بها التقليديون، فإننا نستطيع استخدام هذا الجمع كمقيد لإطلاق الأحكام التي تتضمن تفاوتا في الحقوق، ومخصص لعمومها من ناحية الاعتبار الزمني. وبهذه القرينة نستطيع القول إن الأدلة النقلية على عدم التساوي الحقوقي، ليست عامة ولا مطلقة، ولا تحكي قضية حقيقية، بل تنظر لقضايا خارجية في ظرف زمني خاص. ولا صلاحية لها في زمننا الحاضر، لزوال الموضوع الذي كانت متعلقة به.
جواب على إشكال محتمل
ربما يرد إشكال فحواه:
- ألا يسع الشارع الحكيم العالم على الإطلاق، أن يشرع منذ البداية وعلى نحو صريح واضح، المساواة الأصلية في الحقوق بين الرجل والمرأة، ويضعها في صيغة حكم دائم، بحيث لا تحتاج إلى النسخ أو إلى هذا الجدل في الصغرى والكبرى والاستدلال؟
- ثم ألا يؤدي قبول التساوي الحقوقي – وهو خلاف ظاهر الكتاب والسنة – إلى إثارة الشك في أحكام شرعية أخرى؟
في الجواب نقول: إن المشكل كامن في الفرضية الأولى، أي القول بأن الأحكام الشرعية الموجودة في الكتاب والسنة، كلها أحكام ثابتة ودائمة. أين جرى إثبات هذه الفرضية؟ هل هي بديهية لا تحتاج إلى إقامة دليل؟
هذه الفرضية ليست بديهية. ولم يجر إقامة دليل معتبر عليها. بل الدليل قائم على خلافها. ليس ثمة شك أن كثيرا من الظروف الاجتماعية، الثقافية، الاقتصادية والسياسية للمجتمعات الإنسانية، تمر بتحولات في سياق تاريخها. وتبعا لهذا التحول، تتغير موضوعات العديد من الأحكام. علاوة على هذا فإن سيرة العقلاء تمر هي الأخرى بتحولات في سياق حركة التاريخ. من جملة الأمثلة الظاهرة على تغير سيرة العقلاء، نذكر مسألة الرق التي كانت محل قبول الغالبية الساحقة من المفكرين والمجتمعات البشرية في الماضي. لكنها باتت الآن مرفوضة ومستنكرة. إن مسالة حقوق النساء لا تختلف عن هذا. فعقلانية البشر اليوم تختلف في موقفها من هذا الأمر، عما كانت عليه قبل قرن من الزمن اختلافا كاملا. ذهنية البشر بالأمس ما كانت تحتمل مبررات العصر الحاضر.
أضف إلى هذا، أن الأحكام الشرعية الخاصة بحقوق المرأة في الكتاب والسنة، كانت إلى ما قبل قرن من الزمن، مطابقة لعقلانية العصور القديمة. بمعنى أنها كانت تعتبر التفاوت في الحقوق بين الجنسين، عادلا وأخلاقيا ومبررا، بل ومتناسبا مع حاجات المجتمع البشري.
لو شرع الكتاب والسنة أحكاما مبنية على أرضية تتطلب قرونا من الزمن، حتى تصل إليها عقلانية البشر، فإن قدامى المسلمين الذين خاطبهم التنزيل الحكيم يومذاك، لن يتلقوها بالقبول. ويمكن لنا – في هذا السياق – الإشارة إلى ما هو معروف ومتفق عليه من وجود آيات في القرآن، تتضمن أحكاما معينة، لكنها نسخت بآيات أخرى جاءت بأحكام بديلة.
يتفق الجميع على أن الأحكام الواردة في الآيات المنسوخة كانت مؤقتة ومرحلية، وأن الأحكام التي وردت في الآيات الناسخة، هي الدائمة. وهذا معروف ومتواتر عند الجميع. المجادلة في كون بعض الأحكام الشرعية دائمة وثابتة، أو الإدعاء بأنها مرحلية ومؤقتة ليس إنكارا لما أنزل الله. لقد أنزل الله آيات وأحكاما ثم نسخها. ونحن نأخذ بكل من الاثنين على الوجه الذي شرعت به. فإذا كان التشريع مؤقتا، تعاملنا معه كمؤقت، وإذا كان دائما تعاملنا معه على هذا النحو أيضا.
وعلى هذا المنوال فإن الحلال والحرام الذي شرعه النبي كحكم دائم، يبقى قائما إلى قيام الساعة. لكن هذا الحديث لا يعني أن كل ما شرعه الرسول دائم، فبعضه كذلك وبعضه غير ذلك.
لقد آمن المسلمون في عصر الوحي بما أنزل من أحكام شرعية في الكتاب والسنة، لأنهم وجدوها عادلة، أخلاقية، عقلائية، وراجحة. وكل حكم يحمل هذه الصفات سيبقى محترما ومطاعا، طالما كان متصفا بهذه الصفات ومنتجا لثمراتها الطيبة. لكن حالما يظهر أن أحد الأحكام لم يعد، بالقطع والاطمئنان وليس بالظن والتخمين، متصفا بالعدل أو لم يعد عقلائيا وراجحا أو مقبولا من الناحية الأخلاقية، فهذا يعنى أن زمن صلاحيته قد انتهى، وأنه يعتبر حكما مؤقتا.
يجب التأكيد هنا أن تشخيص صلاحية حكم ما أو عدم صلاحيته ليس أمرا اعتباطيا أو شخصيا. فهو يتوقف على معرفة دقيقة وتخصصية بالظرف الزماني والمكاني، وبتكييف الأحكام وعللها. ولهذا فهو من المهمات الموكولة الى أهل التخصص من المجتهدين الذين يملكون، إضافة الى خبرتهم الفقهية، معرفة عميقة بتأثير التحولات الاجتماعية على موضوعات الأحكام وانعكاساتها.
مثل هذا الاستنتاج لا يمكن التوصل إليه دون اجتهاد في الأصول. لأنه الطريقة الوحيدة التي تسمح بمراجعة منضبطة لتلك الشريحة من الأحكام التي نشعر أنها لم تعد ملبية لما هو ضروري من سمات الحكم الشرعي. المراد من الأصول هنا هو المنهج الذي يأخذ بعين الاعتبار نتائج علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، علم الكونيات (كوسمولوجي)، اللسانيات، التأويل الفلسفي (هرمنيوتيك) وأصول الفقه. إن مراجعة هذه الأصول ستؤدي دون شك إلى فهم مختلف للأحكام الشرعية وموضوعاتها وطرق استنباطها. لا ينبغي القلق من التغيير المنضبط للأحكام الشرعية. بل على العكس، يجب أن نقلق إذا جرى تثبيت أحكام مؤقتة. لأنها تودي الى إضعاف الإسلام وهدر قيمه. لا يمكن لنا تقديم أحكام لإنسان هذا العصر بناء على مباني علم الإنسان القديم.
خلاصة
وردت في الكتاب والسنة آيات وروايات حول حقوق المرأة، يمكن تصنيفها إلى نوعين: آيات وروايات تتحدث عن حقوق متساوية للمرأة والرجل، وتنظر إلى كل من الجنسين باعتباره إنسانا قبل أن يكون رجلا أو امرأة. أما النوع الثاني فهو الآيات والروايات التي اعتبرت المرأة اقل أهلية، فأعطتها حقوقا أقل في إدارة العائلة والمجتمع. لكن في كل الأحوال، أمر القرآن والسنة بأن تكون معاملة المرأة قائمة على أساس العدل والمعروف.
تبنى علماء المسلمين رؤية الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي صرف مفهوم العدالة إلى العدالة الإستحقاقية والمساواة النسبية/التناسبية. واعتبروا أن المؤهلات الذاتية للمرأة أدنى من الرجل، فأعطوها حقوقا أدني منه. مفاد النوع الأول من الآيات والروايات اتخذ دليلا على أن المساواة في الحقوق هي الأصل. أما الآيات والروايات في النوع الثاني فقد تمحورت حول حقوق وتكاليف المرأة، وتبنى العلماء تفسيرا يميل إلى اعتبار السلطة الذكورية من مقتضيات العدالة والشريعة.
من منظور العقلانية المعاصرة، فإن المساواة التناسبية غير مبررة ولا يمكن الدفاع عنها. وهي تفتقر إلى أي دليل. العدالة الاستحقاقية أيضا غير مبررة، بل الدليل قائم على خلافها. عقلانية الإنسان المعاصر تنظر للإنسان بما هو إنسان، وصاحب حق. لذا فهي تدعم التكافؤ الأصلي والعدالة المساواتية/الإنصاف. وهما يتلاءمان إلى حد كبير مع التصوير القرآني لقيمة الإنسان وكرامته.
وقد عرضنا الآيات والروايات التي تتحدث عن حقوق متساوية لبني آدم. كما عرضنا استدلالا عقليا على رجحان هذا المعنى للمساواة على ما دونه. وتوصلنا إلى أن مفاد تلك الآيات، بقرينة الدليل العقلي، يدعم القول بأن المساواة هي الحكم الدائم الثابت. وبنفس القرينة فإن الآيات والروايات التي دلت على عدم التساوي الحقوقي وتفوق حقوق الرجال على النساء، تصنف كأحكام مؤقتة مرحلية، كانت صالحة لزمنها دون زمننا الحاضر.
بناء على مبنى العدالة المساواتية / الإنصاف والتكافؤ الأصلي، ومع الأخذ بعين الاعتبار التفاوت بين الرجال والنساء في النواحي البيولوجية والسيكولوجية، فإن للجنسين حقوقا متساوية، لأن الإنسان كإنسان، وقبل أن يكون ذكرا أو أنثى، يملك ذات الحقوق التي يملكها أخوه الإنسان. هذا الإنسان بما هو إنسان، هو صاحب الحق وهو المخاطب بالتكليف وهو حامل الكرامة والأمانة والخلافة الالهية، قبل أن يكون موصوفا بجنس أو لون أو عرق أو طبقة أو دين أو عقيدة سياسية. هذا المبنى أكثر انسجاما مع روح القرآن وموازين الإسلام.
[1] عبد الرؤوف المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق د. عبد الحميد حمدان، عالم الكتب (القاهرة 1990) ص 65 https://archive.org/stream/tamotaPDF/tamota#page/n63
[2] للاطلاع على الخطوط الرئيسية لنظرية جون راولز في العدالة، انظر أحمد الصادقي: قراءة تحليلية نقدية لكتاب نظرية العدالة لجون راولز،المركز العلمي العربي للأبحاث والدراسات الإنسانية (اطلعنا عليه في 30 يوليو 2018) https://goo.gl/R6gECh
وحول تعريف المساواة وحدودها والنقاشات المتعلقة بمفاهيمها المختلفة، اقترح الرجوع الى ايسايا برلين:
Isaiah Berlin, Concepts and Categories: Philosophical Essays, Edited by Henry Hardy, Pimlico, (London 1978 ), p. 81
[3] يرجع هذا التصنيف إلى نظرية أرسطو في العدالة التوزيعية التي تقترح مفهومين للمساواة، أولهما المساواة الطبيعية، ويطلق عليها أيضا الرقمية، حيث يتساوى الناس جميعا في كل شيء. وثانيهما المساواة المبنية على الاستحقاق، وفحواها معاملة المتساوين بالسوية، أو بحسب مايستحقون. فكل مجموعة متساوية لأفرادها حقوق متساوية، والمتمايزون لهم حقوق متمايزة، ومن يستحق أكثر له حقوق أكثر. فالرجال الأحرار لهم حقوق متساوية، والنساء الأحرار لهن حقوق متساوية، لكن حقوق الرجال متمايزة عن حقوق النساء .
[4] منهج الاجتهاد المتعارف في مجامع العلم الديني الشيعية يعتبر الاصول الأربعة (الكتاب والسنة والعقل والإجماع) ناجزة. ويركز على الفروع، أي ما يستنبط من أحكام بناء على الأصول الأربعة. ويتبنى الكاتب (مع تيار إصلاحي يتسع بالتدريج) إعادة النظر في الأصول. وهو يستعمل في هذه المقالة مفهوما موسعا لدليل العقل، حيث يضيف إليه عرف العقلاء في العالم، وهو غير متعارف في تلك المجامع، بينما يقلل من قيمة الاجماع وسيرة المتشرعة مثلا، والاول دليل معتمد والثاني امارة مشهورة عندهم.
[5] في خصوص تكليف المرأة بالاحتساب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) رأى ابو القاسم الخوئي – وهو من أبرز الفقهاء المعاصرين، أن إطلاق أدلة وجوب الاحتساب، يقتضي مطلوبيته من أي مكلف، دون حاجة لاستئذان أحد، بمن فيهم الحاكم الشرعي. وحتى مع فرض عدم إطلاق وجوبه، فإن الشك في دخالة الأذن متأخر عن العلم بالوجوب، فيرجع فيه إلى الأصل العملي وهو البراءة، أي عدم اشتراط التقيـيد بالإذن. الميرزا علي الغروي التبريزي: التنقيح في شرح العروة الوثقى، وهو تحرير لأبحاث اية الله الخوئي في الفقه الاستدلالي، ط3 دار الهادي، (قم 1410) 1/428
وجادل الحائري استدلال محمد باقر الصدر بهذه الآية على تساوي المؤمنين في الولاية (تولي السلطة)، بأن الولاية من الألفاظ المشتركة التي تفيد أيضا معنى التآزر. ولا دليل على حملها على خصوص معنى الولاية السياسية. كاظم الحائري: ولاية الأمر في عصر الغيبة، مجمع الفكر الإسلامي، (قم 1414) ص. 163 أما منتظري فرأى أن الولاية المنظورة في الآية ليست في مقام بيان الأحكام بل في مقاوم الولاية السياسية والسلطة الشرعية. حسين علي منتظري: دراسات في ولاية الفقيه، ط2 الدار الإسلامية، (بيروت 1988) 2/225
[6] لتفاصيل عن مسألة الحسن والقبح، والخلاف بشأنها، انظر توفيق السيف: من دولة الغلبة إلى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي. مدونة شخصية 2011. http://talsaif.blogspot.com/2011/12/blog-post_18.html
[7] حول رأي الاخباريين ومناقشته، انظر محمد تقي الحكيم: الأصول العامة للفقه المقارن، ط2، المجمع العالمي لأهل البيت (قم 1997) ص 270
[8] حول الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، انظر محمد رضا المظفر: أصول الفقه، ط2 مؤسسة الأعلمي للمطبوعات (بيروت 1990)، 1/206.
ونقل السبحاني رأيا للرضوي القمي جديرا بالتأمل، فحواه الملازمة بين الإثنين. لكن الحكم الناتج عن حكم العقل، لا ينسب للشرع ولا يترتب عليه عقاب وثواب أخروي. لأن العقاب والثواب الأخروي مشروط بوصول خطاب الشارع. انظر جعفر السبحاني: رسالة في التحسين والتقبيح العقليين، ص 131 ن.إ. اطلعنا عليها في 22-6-2018. http://www.alseraj.net/a-k/aqaed/rtwt/index1.html نقلا عن صدر الدين الرضوي القمي: مطارح الأنظار: رسالة في الأدلة العقلية، ص 236. ولم نستطع الوصول إلى هذا الكتاب. وقد تبنى الكاتب مثل هذا الرأي في دراسة أخرى. انظر محسن كديور: از إسلام تاريخي بإسلام معنوي. موقع شخصي (بهمن 1380 ه.ش.) http://kadivar.com/?p=1078
[9] للمزيد حول أثر مباحث الحسن والقبح العقليين في الحكم الشرعي، راجع محمد رضا المظفر: المصدر السابق، باب الملازمات العقلية، 1/ 179
[10] محمد بن إسماعيل البخاري: صحيح البخاري، كتاب المغازي، حديث 4425، وزارة الشؤون الإسلامية (الرياض 1997) ص 913
[11] الشريف المرتضى: نهج البلاغة، شرح الامام محمد عبده، الخطبة 80 ج1/129. دار المعرفة (بيروت. د. ت.)
[12] الطباطبائي مفسر وأستاذ فلسفة معروف في الحوزة العلمية. وتفسيره “الميزان” أكثر التفاسير انتشارا بين طلبة العلم الديني. حول حياته، انظر مقدمة التفسير، لعدة كتاب (اطلعت عليها في 30 يوليو 2018)http://www.114.ir/TafseerAlMezan/SertAlAllmahAlTabatabai/Arabe/SyeartAlAlmahAlTabatabaee.htm
[13] محمد حسين الطباطبائي: الميزان في تفسير القران، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات (بيروت 1997) 3/276 تفسير الاية 228 البقرة.
[14] الطباطبائي: الميزان، المصدر السابق 3/267. تفسير الآية 228 البقرة .
[15] الطباطبائي: نفس المصدر 3/ 278
[16] الطباطبائي: نفس المصدر 3/ 278
[17] الطباطبائي: نفس المصدر 3/279
[18] الطباطبائي: نفس المصدر 3/279
[19] الطباطبائي: نفس المصدر 3/279
[20] الطباطبائي: نفس المصدر 3/280
[21] الطباطبائي: نفس المصدر 3/281
[22] الطباطبائي: نفس المصدر 4/223، تفسير الآية 11 النساء
[23] الطباطبائي: نفس المصدر 4/344 تفسير الآية 32-34 النساء
[24] الطباطبائي: نفس المصدر 4/ 355
[25] الطباطبائي: نفس المصدر 4/351
[26] الطباطبائي: المصدر السابق، 4/ 351
[27] مرتضى مطهري فقيه وأستاذ فلسفة، ومن زعماء الحركة الدينية. قتل في 1979. حول حياته انظر حماة الإسلام، الاستاذ الشهيد مرتضى مطهري، موقع بقية الله (12-7-2013) http://www.baqiatollah.net/article.php?id=725
[28] مرتضى مطهري: نظام حقوق المرأة في الإسلام، دار الكتاب الإسلامي (قم 2005) ص 134
[29] مطهري: نفس المصدر، ص 144
[30] مطهري: نفس المصدر، ص 146
[31] مطهري: نفس المصدر، ص 147
[32] حسين علي منتظري (1922-2009) فقيه ومرجع ديني وكان مرشحا لخلافة السيد الخميني. حول حياته انظر موقع آية الله منتظري (اطلعنا عليه في 30 يوليو 2018) https://amontazeri.com/biography
[33] حسين علي منتظري: حكومت ديني وحقوق انسان، اراغون دانش (قم 1429ه) ص 119. جدير بالذكر أن منتظري أشار في كتاب آخر له، إلى أن خطبة الإمام علي بن أبي طالب التي ذم فيها النساء، تحكي حال سيدة بعينها وليس جنس المرأة. انظر حسين علي منتظري: شرح نهج البلاغة، سرايى (قم 1383ه.ش.) 3/234
[34] لتفصيل القول في صرف الدليل الخاص لدلالة الأمر العام أو تقييد إطلاقه، انظر محمد رضا المظفر: المصدر السابق 1/138 وما بعدها.
[35] لمعرفة البنية النظرية التي أقام عليها أرسطو هذا المفهوم، اقترح الرجوع الى سوزان موللر اكين: النساء في الفكر السياسي الغربي، ترجمة عبد الفتاح إمام، دار التنوير (بيروت 2009) الفصل الرابع ص 101. ورغم أن المقاربة نقدية لفكر أرسطو، إلا أن الكاتبة تقدم تصورا واسع الأفق حول مباني أرسطو، سيما في مسألة المساواة. (المحرر)
[36] Isaiah Berlin, op cit, p. 82
[37] وفقا لايسايا برلين فإن أبسط مفهوم للمساواة هو أنها قاعدة rule. حين يوضع قانون أو نظام عمل فإنه يخاطب كافة المكلفين بنفس المضمون، وإذا استدعى الأمر تمييزا لبعض المخاطبين، فإن القانون يوضح هذا بنص محدد ومبرر. المساواة لا تحتاج إلى تبرير لأنها الأصل، لكن التمييز يحتاج دائما إلى تبرير لأنه خلاف الأصل Isaiah Berlin, op cit, p. 82
ترجمة الدکتور توفيق السيف
مجلة حکمة: اجتهاد ثقافي وفلسفي، كانون الأوّل 2018
اصل المقالة باللغة الفارسیة: بازخوانی حقوق زنان در اسلام: عدالت مساواتی به جای عدالت استحقاقی، تشرين الأول 2011
***
ترجمة اخری: إعادة النظر في حقوق المرأة في الإسلام: عدالة المساواة بدیلا عن عدالة الاستحقاقات، ترجمة حسام الدین بدر، مراجعة الترجمة منی إبراهیم، في کتاب قانون الأسرة المسلمة ومعضلة المساواة، تحریر زیبا میرحسینی، کاری فوغت، لینا لارسن وکریستیان موی، بیروت، دار الکتاب اللبناني، القاهرة، دارالکتاب المصري، 2017م/1439ه-، ص409-451. [الترجمة عن النص الانكليزي]