جائحة كورونا والمقدّسات في ضوء الأحكام الفقهية والقراءات التاريخية

يشكّل وباء كورونا أزمةً دولية، وإن الإنسان في القرن الواحد والعشرين قد وجد نفسه عاجزاً جداً أمام فايروس صغير ومجهري، فهو فايروس لا يمكن محاربته بالأسلحةِ النووية والصَّواريخ. لا يعرف هذا الفايروس أيّ حدودٍ ولا عِرقٍ وقوميّة ودينٍ ومذهب، ولا يعرف فقيراً ولا غنيّاً ولا رجلاً ولا امرأة. يمضي بقسوة، ويؤثّر على كلّ العلاقات والقضايا والشؤون البشريّة.

أمّا إيران فإنّها –بصرف النَّظر عن كورونا- قد تجاوزت إحدى أسوء سنواتها خلال العقود الخمس الأخيرة على أقل تقدير. وإن فايروس كورونا فاقَمَ الواقع المتأزّم الذي تعيشه إيران، وأُضيفَ هذا الوباء إلى سائر المصائب التي يواجهها الإيرانيون. الحُمق واللامبالاة والجَهل المفرط لدى الماسكين بزمام الأمور، بالإضافة إلى وقاحتهم ومزاعمهم الواهية وسوء تدبيرهم وعدم اكتراثهم بالقواعد العِلميّة في إدارة البلد، وسوء خُلقُهم وكذبهم ومغامراتهم في المنطقة، ورفع راية الاختلاف في طبيعة العلاقات الدولية، وتجاهل مبدأ «المصالح القوميّة»، والفساد المؤسَسي والاختلاس والسرقة والرَّيع وفقدان حُكم القانون والحُكم الفَردي والاستبداد، بل الأوتوقراطية، وإلى جانب كلّ هذه المعضلات «التوظيف النفعي والذرائعي للدينِ والمذهب»، كلّ ذلك يعكس واقعنا اليومي المُظلم في إيران. ومع تفشّي وباء كورونا تضاعفَت وتعمّقَت كلّ هذه المفاسد والنواقص والأزمات المذكورة.

قبل ما يقارب الشَّهر مِن الإعلان الرَّسمي على تفشّي كورونا في البلاد (أيْ في أواخر شهر كانون الثاني) وصل هذا الفايروس من الصّين إلى إيران عبر طائرةٍ لشركة ماهان الإيرانيّة للنقل الجَوّي. القضيّة لا تخرج عن حالتَين: فإمّا أنّه لم يُشخَّص في بادئ الأمر، أو تمَّ تشخصيه، ولكن لم يُعلَن عنه لِلرأي العام، بسبب وهمٍ يُسمّى مصلحة حفظ النظام. بحسب ما أُعلِنَ عنه رسمياً كان أوّل من نقل الفايروس إلى إيران مجموعة من الطلبة والعمّال الصينيين في قم، وبسبب عدم فرض حجرٍ صحّي على قم انتشر الفايروس فوراً في أرجاء إيران وفي كثيرٍ من الدول المجاورة في المنطقة. ينقسم السؤال المعروض بهذا الصدد على قسمَين. وفيما يلي إجابتي الإجمالية والواضحة عن السؤالَين:

هل مدينة قم مقدّسة؟ لا، إنّها ليست مقدّسة على الاطلاق!

لماذا لم يُفرض حَجر صحيّ على قم؟ بسبب اللامبالاة، والجهل الديني، والتخلّف السياسي؛ مثلما لم يُفرض حجر صحي على أيّ مدينةٍ إيرانية أخرى حتّى يوم 27 آذار على أقلّ تقدير.

أمّا إجابَتي المفصّلة فهي كالآتي:

أ. بالنّسبة لِلشقّ الأوّل من السؤال: تحدَّثَ خطباء المنابر الدينية كثيراً عن قداسة قم وعن كونها مصونة من كلّ أنواع البلاء. وفي واقع الأمر إن قُرّاء مجالس التعزية والمنشدين وخطباء الوعظ الديني قد روّجوا هذه الصورة لمدينة قم. ولكن من أين ينشأ هذا السيماء المقدّس والمعصوم لهذه المدينة؟ من بعض الأحاديث والروايات. يجب إخضاع هذه الروايات للدراسة والتمحيص من حيث الدلالة والسَّند. المحدّث الكبير في العصر الصَّفَويّ محمّد باقر المجلسي (ت: 1111هـ) في موسوعته الروائية المعروفة بـ«بحار الأنوار»، وتحديداً في كتاب السَّماء والعالَم، (وبعبارةٍ أخرى في قسم معرفة الأفلاك والأكوان والبحار) خصص باباً بعنوان (المَمدوح مِن البلدان والمذموم منها وغرائبها). أغلب الروايات الواردة في هذا الباب جاءت في مدح مدينة قم! اخترتُ ثمانيَ منها، وهي ما تكون الأكثر ارتباطاً بالقضيّة الراهنة، وتشمل الموضوع من كلّ جوانبه، وأقتصر في نقل نصوصها على العبارة المرتبطة بصلب الموضوع. وسأذكر لاحقاً المصدر الذي ترجم هذه الروايات للفارسيّة. ويرد رقم الحديث بين قوسَين، نقلاً عن الباب 36 آنف الذكر من كتاب بحار الأنوار (المجلّد 57 أو المجلّد 60 بحسب الطبعتَين الرائجتَين):

1- «وإن البلايا مدفوعة عن قم وأهله… وإن الملائكة لتدفع البلايا عن قم وأهله.» (الحديث 22)

2- «إذا عمّت البلدان الفتن فعليكم بقم وحواليها ونواحيها، فإن البلاء مدفوع عنها.» (الحديث 26 و44)

3- «إذا فقد الأمن من العباد… فالهرب الهرب… إلى الكوفة ونواحيها، أو إلى قم وحواليها فإن البلاء مدفوع عنهما.» (الحديث 29)

4- «قم عُش آل محمد ومأوى شيعتهم… يدفع اللهُ عنهم شر الأعادي وكلّ سوء.» (الحديث 31)

5- « إذا أصابتكم بلية وعناء فعليكم بقم، فإنه مأوى الفاطميين، ومستراح المؤمنين» (الحديث 32)

6- «إنَّ لَعَلى قم مَلِكاً رَفرفَ عليها بجناحيه لا يريدها جبّار بسوءٍ إلا أذابه اللهُ كذَوبِ الملح في الماء.» (الحديث 46)

7- «تربة قم مقدسة وأهلها مِنّا ونحن منهم لا يريدهم جبار بسوء إلا عجلت عقوبته ما لم يخونوا إخوانهم! فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم جبابرة سوء… ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم اعصمهم من كل فتنة ونجهم من كل هلكة.» (الحديث 49)

8- «قال عليه السلام لزكريا ابن آدم القمي حين قال الشيخ عنده: يا سيدي إني أريد الخروج عن أهل بيتي، فقد كثرت السفهاء. فقال: لا تفعل، فإن البلاء يدفع بك عن أهل قم، كما يدفع البلاء عن أهل بغداد بأبي الحسن الكاظم (ع).» (الحديث 45)

9- «إنَّ للجنةِ ثمانية أبواب، ولأهل قم واحد منها، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم، ثم طوبى لهم.» (الحديث 33)

كلُّ هذه الروايات منقولةٌ عن الإمام جعفر الصّادق (ع)، سوى الرابعة التي نُقِلَت عن الإمام موسى الكاظم (ع)، والروايتان الأخيرتان منقولتان عن الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع). بمعنى أنَّ سبعٍ من هذه الرويات على أقل تقدير صدرت قبل دفن السيّدة فاطمة المعصومة في قم. على وفق هذه الروايات (وعلى وجه الخصوص الرواية السابعة) فإنَّ مدينة قم أوّلاً: مدينة مقدّسة، ثانياً: إنّها على وفق كلّ هذه الروايات التسع مصونة ومحفوظة من أيّ بلاء وفي كلّ الأوقات والساعات، لأنّها عُش آل البيت، (إشارة إلى مرقد فاطمة المعصومة، ابنة الإمام موسى الكاظم في هذه المدينة)، وإنّها مركز الشيعة المدافعين عن أهل البيت. وإن الإمام جعفر الصّادق (ع) أيضاً قد دعا بدعاءٍ لحفظ قم وأهلها من أيّ فتنةٍ وبلاء، وإنّ أئمّة أهل البيت كانوا مستجابين الدعوة. ثالثاً: على وفق الروايات الأخيرة أهل العالَم كلّهم يدخلون الجنّةَ من إحدى أبوابها الثمان، إلا أهل قم، يدخلون الجنَّةَ من بابٍ خاصّة بهم. (التمييز المقدَّس!) لذلك نجد المقابر التقليدية في قم من أكثر المقابر إقبالاً في كلّ إيران، إيماناً مِن النّاس بأن المدفون فيها يدخل الجنّة مباشرةً. إذن إن دلالة هذه الروايات في إثبات مقصود خطباء الوعظ وقرّاء التعزية تامّةٌ، وإن هذه الطائفة لا تتحدّث عن هذه الأمور مِن دون دليل وإثباتات!

ب. أمّا بالنّسبة لسندِ هذه الروايات فحدّث ولا حرج! فعلى سبيل المثال لا تجد سنداً معتبراً ولو لواحدةٍ من الروايات الواردة في مدح مدينة قم. فكل الروايات التي نقلتها أنموذجاً فاقدة للاعتبار من حيث السَّند. بمعنى إن طبقات رواتها كلّهم، أو أحد الرواة، ولاسيّما الرواي المباشر من المجهولين، أو أنّهم من الرواة الذين شهد كبّار علماء علم الرجال بعدمِ وثاقتهم. خلاصة القول، على وفق الموازين المتَّفَق عليها في علم الرجال في التشيّع الجعفري لا يمكن انتساب مثل هذه الروايات لأئمّة أهل البيت. وبعبارةٍ أوضح لم يلفظ أئمّة الشيعة بمضمون هذه الروايات مطلقاً.

ومِن الطريف ذكره هو أن كلّ هذه الروايات التي نقلتُها ذُكِرَت في كتابٍ واحد: كتاب «تاريخ قم»، تأليف الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي في سنة 387 هـ. دُوّنَ هذا الكتاب باللغة العربية بطلبٍ من اسماعيل بن عبّاد المعروف بـ«الصاحب بن عبّاد» كافي الكفاة، في عصر فخر الدولة الديلمي، في عشرين باباً. ولكنَّ نصّ هذا الكتاب فُقِدَ على أقلّ التقديرات منذ القرن التّاسع، ولا يُمكن الحُكم عليه بأيّ نحوٍ من الأنحاء. وفي السنتَين 805 و806 الهجريتَين قام شخص باسم (الحسن بن علي بن الحسن بن عبد الملك القمّي) بترجمة الأبواب الخمس الأولى من هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية. وهنا أيضاً لا يمكن أن نحكم على طبيعة العلاقة بين النصّ المترجَم والنص الأصلي المفقود، ولا نعلم ما الذي حصل للأبواب الثلاثة عشر المتبقيّة التي لم تُتَرجَم للفارسية. إن لِكتاب تاريخ قم (أيْ هذه الترجمة الفارسية المشتملة على خمسة أبوابٍ فقط) نحو اثنتي عشرة مخطوطة في جميع مكتبات إيران. وعلى وفق تحقيق حسين مدرسي طباطبائي فإنّ كل هذه المخطوطات تنتهي إلى مخطوطتَين، وإن هاتَين المخطوطتَين أيضاً غير منسجمتَين مع بعضها في موارد مهمّة في النَّص. (نهاية الاقتباس) إن المخطوطة الأقدم تعود لسنة 837، وهي كانت لابنِ المترجِم، وبالطَّبع لا تُعد المخطوطة الأكمل. صدرت نسختان مصححتان لهذه المخطوطة، النسخة المصححة الأولى تعود لفترة ما قبل الثورة، صححها جلال الدين الطهراني على وفق مخطوطة واحدةٍ تعود لسنة 1001، والنسخة المصححة الأخرى صدرت بعد الثورة، أصدرها محمّد رضا الأنصاري القمّي على أساس النسختَين آنفتَي الذكر؛ وما زال الكتاب يحتاج إلى تصحيح وتحقيق نقديَين.

السؤال الذي يظلّ قائماً حول هذا الموضوع يستفهم عن مدى وثاقة الروايات المنقولة في مخطوطات هذا الكتاب؟ وما مدى إمكانية انتساب هذه الروايات للمؤلّف والمترجم، وكيف يمكن التأكّد من أنّها ليست من إضافات النُّسّاخ؟ على أيّ حال إنّ المجلسي قام بترجمة روايات هذا الكتاب عن الفارسية للعربيّة، وأدرجها في بحار الأنوار. والروايات التي نقلتها آنفاً كانت عن الترجمة الفارسيّة لكتاب (قم نامه/ تاريخ قم).  أي إن الروايات التي نقلتُها كانت عن المصدر الوحيد الذي وصلنا من كتاب تاريخ قم، المتمثّل بالترجمة الفارسية لهذا الكتاب، للحسن بن علي بن الحسن بن عبد الملك القمّي في القرن التاسع الهجري. وقد سبق المجلسيَّ القاضي نور الله الشوشتري (956 – 1019هـ) في نقل الرواية الثانية، إذ ذكرها في كتابه مجالس المؤمنين، من دون أيّ إشارة للسندِ، ومن دون الإشارة إلى كتاب تاريخ قم. والرواية الأخيرة أيضاً وردت في الكتاب نفسه من دون الإشارة للسند أو لكتاب تاريخ قم. ولكن في هذا الكتاب زيْدَ في حصّة أهل قم مِن أبواب الجنّة، فبعد أن كانت باب واحدة، أصبحت ثلاثة أبواب، أيْ إن ثلاثة من أبوابِ الجنّة الثمان مخصصة لأهل قم!

إذن يمكن القول بأنّ الروايات التي نقلتُ نصّها آنفاً، وفي ضوء الوثائق المتوافرة، فإنّها أوّلاً: قد ذُكِرَت لأوّلِ مرّةٍ في القرن التاسع الهجري وفي ترجمة كتاب تاريخ قم، ومن ثمَّ تُرجمَت روايتان منها إلى العربية بنحوٍ مُرسَل في القرن الحادي عشر الهجري بحسب ما تقدَّم ذكره، وفي نهاية المطاف قام المجلسيُ بترجمتها للعربية، ونُقِلَت في بحار الأنوار عن كلا المصدرَين المذكورَين. ثانياً: لم تُنقَل هذه الروايات التسع، ولا حتّى أيّ روايةٍ أخرى في مدح قم، في الكتب الأربعة الشيعية. ثالثاً: ولغاية القرن الحادي عشر الهجري لم تُنقَل هذه الروايات التسع التي تُعد الروايات الأهم في مدح قم، ولم تُذكَر في أيّ كتابٍ روائي شيعي سوى هذه الكتب الثلاث المذكورة آنفاً. رابعاً: ومثلما تقدّم إن الروايات المنقولة إمّا أن تكون مرسلة (أيْ: فاقدة للسَّند)، أو إنّ سندها ضعيف ولا يمكن انتسابها لأئمّة أهل البيت. ولنا أن نقطع ونقول بأنَّ كلّ هذه الروايات، ومن دون أدنى شك، إنّما هي روايات موضوعة، وتعكس آمال ومثاليات ناقليها، أو أنّها نُقِلَت ووضعَت لأغراضٍ سياسية، (الحديث – السلطة).

ولكن هل الروايات الموضوعة تقتصر على مدينة قم؟ كلّا. هل الأحاديث الموضوعة في مدح المدن وذمّها تختصّ بالشيعة؟ كلّا، فقد وردت الروايات والأحاديث الموضوعة في مدح البلاد وذمّها في مصادر أهل السنّة أيضاً، وإن عددها يبلغ عشرات الأضعاف بالمقارنة مع عددها في المصادر الشيعية. وبهذا الصدد يمكن الإِشارة إلى رأيَين صريحَين لاثنَين من علماء السنّة، وهما كلّ من ابن قيّم الجوزيّة (691-751هـ) في كتابه «المنار المنيف في الصَّحيح والضَّعيف»، والملّا علي القاري (نور الدّين علي بن محمّد بن سلطان) (ت: 1014هـ) في كتابه «الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة» (الموضوعة الكبرى): «كل حديث في مدح بغداد ودجلتها، والبصرة، والكوفة، ومَرو، وقزوين، وعَسقلان، والإسكندرية، ونصيبين، وأنطاكية، فهو كذب… وكلّ حديث: أن مدينة كذا وكذا، من مُدن الجنّة، أو من مُدن النّار، فهو كذب.» [المنار المنيف، ص111 و112]

وعلى سبيل المثال أُشيرَ إلى حديثَين نبويَين من مصادر أهل السنّة في مدح مدينة قزوين –التي تكون كلّها موضوعة مثل روايات قم- عن كتاب «التدوين في أخبار قزوين» للرافعي (ت: 623هـ): «اذهبوا إلى قزوين للجهاد، فإنّ هذه المدينة باب من أبواب الجنّة.» و«قزوين باب من أبواب.» إذا حسبنا عدد أبواب الجنّة لكلّ مدينةٍ في المصادر الشيعية سنحصل على رقمٍ لا يتجاوز المئة. ولكن على وفق روايات أهل السنة فإنّ عدد أبواب الجنّة لكلّ مدينة تبلغ مئات الأبواب. وبإزاء مثل هذه الأحاديث والروايات خُصِصَ في كتب الأحاديث الموضوعة في مصادر أهل السنّة باب للأحاديث الموضوعة في مدح البلاد وذمّها.

ومن هنا لنا أن نعتمد قاعدةً في ذلك ونقول بأنَّ كلّ روايةٍ منقولةٍ في مدحِ أو ذمّ أيّ مدينة هي رواية موضوعة، إلّا إذا ثَبُتَ خلاف ذلك. وحتّى إذا افترضنا بأنَّ قم مقدّسة –وهي ليست كذلك- فإنّ قداستها لا تمنع ابتلائها بالفتنةِ وبالبلايا الطبيعية والبشرية. فمن خلال قراءة التاريخ يتّضح بأنَّ قم كأيّ مدينةٍ أخرى لم تكن مصونةً من البلايا الطبيعية كالزلزال والسيول والمجاعة، ولا حتّى من البلايا البشرية كالاجتياح والغَزو والإبادة والقصف. وعليه لا يوجَد أدنى تعارضٍ بين فايروس كورونا والقداسة المفترضة. المدينتان المقدّستان بحسب القرآن الكريم مكّة ﴿لا أُقسِمُ بهذا البلد وأنتَ حِلٌّ بهذا البلد﴾، وبيت المقدس ﴿الأرض التي باركنا فيها﴾، ﴿الواد الأيمنِ﴾، ﴿البقعةِ المباركة﴾، ﴿البلدة الطيّبة﴾، ﴿الواد المقدّس طوى﴾، ﴿البلد الأمين﴾. ولا يوجَد أيّ دليلٍ تاريخي وديني يؤكّد عدم ابتلاء هاتَين المدينتَين بالكوارث الطبيعية والبشرية. فمجرّد هيمنة الصهيونية في زماننا على بيت المقدّس يُعد أفضل دليل على أن قداسة المدينة لا تمنع نزول البلاء والفتنة. وبالنسبة للعقيدة الشيعية أيضاً نجد أن مرقد الإمام الحسين الذي يعتقد الشيعةُ بقداسته قد هُدَّم بالكامل. وهكذا الأمر بالنسبة لأئمة أهل البيت المدفونين في مقبرة البقيع، إذ لا تزال مواضع قبورهم مهدّمة منذ هيمنة الوهابية على أرض الحجاز.

وحتى لو افترضنا أن هناك قداسة لمراقد الأئمّة –وهو ما يمكن إخضاعه للمناقشة- فإنّ مراقد أبناء الأئمّة ليست فيها أيّة قداسة. إن قبور المؤمنين الصالحين يمكن احترامها، وإن المسلمين يعظّمون قبر النبيّ، وبالنسبةِ للشيعة يجلّون قبور أئمة أهل البيت أيضاً، وهكذا بالنسبة للمتصوّفة الذين يجلّون قبور أئمتهم وأقطابهم في التصوّف. يجوز لكلّ هؤلاء أن يجلّوا قبور أئمتهم وعظمائهم، ولكن أن تكون هذه القبور –ناهيك عن المدينة التي يقع فيها القبر- مصونة من كلّ البلايا فإنّها ليست سوى أسطورة، ولا شكّ أنها قضيّة تصنَّف ضمن الخرافات الدينية والمذهبية. فالقداسة قضيّة فضفاضة وقابل للتمدد. إن كلّ المساجد، وبنحوٍ عام، كلّ المعابد تُعد مقدّسة لدى المؤمنين بها. وليس لدينا أيّ دليلٍ معتبرٍ يشير إلى أن المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النَّبي أو مسجد الكوفة هي مواضع مُصانة مِن البلاء. فلا التاريخ يؤيّد هذا الأمر في إطارٍ تجريبي، ولا النصوص الدينية المعتبرة تشير إلى ذلك.

إن اعتماد مثل هذه الروايات الموجودة في الكتب، ومِن دون اِخضاع تلك الكتب للتحقيق والتمحيص، والأهمّ من ذلك من دون التأكّد من صحّة سندها، إنما هي من علامات إهمال العقل والتعقّل. إن ما لا يقلّ عن ثلاثة أرباع هذه الروايات في المصادر السنيّة والشيعية فاقدة للسندِ المعتبَر، ولا يمكن انتسابها للنبيّ أو لأئمة أهل البيت. وحتّى الروايات المنسجمة مع الموازين التقليدية المعتمدة في علم الرجال، والتي تُعد صحيحة أو معتبرة، بعد أن خضعت للدراسة والتحقيق، اِتَّضَحَ بأنّ جزءاً غير قليلٍ منها غير صحيحة وغير معتبرة. من هذه الدراسات والتحقيقات يمكن الإشارة إلى تحقيق محمّد ناصر الدّين الألباني (1914-1999م) حول روايات أهل السنّة، في كتابه (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمّة، في 14 مجلّداً)، وقد شمل الصحاح أيضاً. إن وجود مثل هذه الروايات في الكتب الأربعة الشيعية لا يعني أنّها معتبرة أو صحيحة، فقد أوضحت دراسة محمّد باقر البهبودي (1929-2015م) بأنَّ الصحّة السنديّة لروايات هذه الكتب تشمل ثلاثة أجزاء فقط من مجموع الأجزاء الثمانية لكتاب الكافي، وجزءاً واحداً فقط من مجموع الأجزاء الأربعة لكتاب مَن لا يحضره الفقيه، وخمسة أجزاءٍ فقط من مجموع الأجزاء العشر لكتاب تهذيب الأحكام؛ أيْ ما لا يقل عن 41% من مجموع تلك الروايات.

المعضلة الرئيسة في إيران هي أنّ السلطة تدعم خرافات المذهب من خلال الإذاعة والتلفزيون والصَّحافة وسائر أجهزة الإعلام، ومن خلال منابر صلاة الجمعة والاعلام الديني الرسمي، إذ أنّها تعمد إلى ترويج الخرافات المذهبية والقضايا الضعيفة والواهية. ويبدو أن مراجع التقليد ليست لهم أيّة مشكلةٍ مع هذا النمط من المذهب الخرافي؛ أو إذا كانوا رافضين للخرافات فإنّهم في الغالب يعتقدون بأنّه ليس من المصلحة التصدّي العلني والجاد لهذا التخريف. وبعبارةٍ أخرى ثمّة تفكير عامّي مستند للخرافة والتنمّر يهيمن على الأوساط الدينية والوعي المذهبي؛ وكلّما كان المواطنون أكثر تعليماً كانوا أكثر ابتعاداً عن مثل هذا المذهب المَبني على الخرافة.

ج. وأما الشقّ الثاني من السؤال، لماذا لم يُفرَض حجر صحيّ على قم؟ معلوماتي ليست كافية للإجابة عن هذا السؤال. في بادئ الأمر صرّح ممثّل المرشد الأعلى والأمين العام في مرقد السيّدة فاطمة المعصومة بأنَّ هذا الحرم هو دار لِلشفاء، وأبدى مخالفته مع إغلاق الحَرَم. لا أدري هل تدخّل مراجع التقليد في ذلك؟ أو حتّى لو افترضنا أنّهم تدخّلوا فبالنظرِ إلى عدم اكتراث السلطة لرأيِ المراجع في قضية رفع أسعار الوقود في تشرين الثاني 2019 فمن المُستَبعَد أن يكون لرأيهم موضعاً مِن الإعراب! لا يوجَد احتمال أقوى من عدم موافقة قائد الجمهورية الإسلامية لهذا الأمر. الدليل الأقوى الذي نمتلكه يتمثّل باللجنة العُليا لمكافحة كورونا، وهي السلطة العليا التي تمتلك القرار في فرض الحجر الصحي على البلاد، بما فيه مدينة قم، ولا سيما القرار في إغلاق الأماكن الدينية. وقد صرَّحَ وزير الصحّة [الإيراني] بأنّه كان موافقاً على فرض الحجر على مثل هذه الأماكن، ولكن رأي أغلبية الأعضاء في لجنة مكافحة كورونا كان يرى غير ذلك. لم يُعلَن حتّى الآن عن أسماء أعضاء هذه اللجنة، ولكنّه من الواضح أنّهم منصَّبين من لدن الوليّ الفقيه. إذ لا يُتخَذ أيّ قرارٍ عام وكبير في نظام الجمهورية الإسلامية إلّا بأمرٍ صريح أو ضمنيّ من لدن الولاية المطلقة. على وفق هذا التحليل يمكن القول بأنَّ المتهم الأوّل في رفض الحجر على قم هو شخص المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية. وإن أيّ واحدٍ من مراجع التقليد أو رئيس الجمهورية أو قادة الحرس الثَّوري أو خطباء منابر الجمعة، أو مؤسسات دينية أخرى من قبيل جامعة المدرّسين [في حوزة قم] إذا كانوا مساهمين في هذا القرار الخاطئ فإنّهم يتحمّلون المسؤولية أيضاً. وإنّ أيَّ رجل دينٍ وأي شخصٍ آخر آمَنَ بوَهمِ قداسة قم، أو بِخرافةٍ مثل جعل قبر السيّدة فاطمة المعصومة داراً للشفاء، وقد حالَ بسبب هذه العقائد دون فرض الحجر الصحي على مدينة قم، فإنّه يجب إخضاعه للمُساءلة القانونية في المحكمة الصالحة.

إن أي أحد، ومهما كان موقعه الديني أو السياسي، إذا حال دون فرض الحجر على الأماكن الدينية العامّة، فإنّه من دون أي استثناء، حتّى وإن كان المرشد الأعلى أو مِن مراجع التقليد، أو غيرهم، مُعرَّض للمُساءلة القانونية في المحكمة الصالحة. كان يجب فرض الحجر الصحي على قم ومشهد وعلى مرقد الإمام الرضا وسائر المراقد الدينية في أرجاء إيران منذ أول إعلان رسمي لانتشار الفايروس في البلد.

سؤالٌ: الأنباء التي تصلنا في هذه الأيّام عن مراجع الدين بخصوص مواجهة النّاس لهذا الوباء لا تشابه أبداً الأوامر الفقهية والدينية الرائجة. على سبيل المثال أكّد السيّد الشبيري الزنجاني بأنَّ الجميعَ مُلزَمون باتّباع التعليمات والضوابط الطبيّة. ودعا الشيخ مكارم الشيرازي النّاسَ إلى الالتزام بضوابط الصحّة واتّباع التعليمات الصحيّة. وعدَّ الشيخ جعفر سبحاني قول الأطبّاء حجّةً، ودعا النّاسَ إلى الالتزام بالوصايا الطبيّة. وأكّد الشيخ صانعي بأن الجميع مُلزَمون بقبول الوصايا الطبيّة من الناحية العقليّة والشَّرعيّة و… بمعنى أن مراجع التقليد ورجال الدين اعتمدوا لغة الأطبّاء والممرضين، وبدلاً من دعوة النّاس إلى المعنويات والتوسّل بالأئمة، أخذوا يتحدثون عن ضرورة مراعاة المسائل الصحيّة والطبيّة. لاسيّما بالنسبة للتوسّل والدعاء، إذ أن له مكانة خاصّة في اللاهوت الشيعي. ومن جانبٍ آخَر نجد الآن يعفّرون ويعقّمون الأضرحة والأماكن الدينية بالكحول وسائر مواد التعقيم. هل إن فايروس كورونا يسرّع العلمانية الشيعية؟ وهل سيقدّم هذا الفايروس خدمة للعلمانية؟

ما يُنقَل عن مراجع الدين المعاصرين يعكس عين الأوامر الدينية والفقهية منذ صدر الإسلام وحتّى الآن، وإن الفقهاء المذكورين لم يذكروا شيئاً جديداً من عندهم. إن رسول الله (ص) حينما كان يمرض كان يستشير الطبيب، وهكذا الأمر بالنسبة للإمام علي بن أبي طالب. وفي ذلك الزمان كان غالب الأطباء مِن غير المسلمين. وهكذا يكون الأمر بالنسبة للمراجع والفقهاء، فإنّهم حين يمرضون يراجعون الأطبّاء كسائر النّاس. والدليل على ذلك واضحٌ جدّاً في الفقه الشيعي: التزاماً بـ«قاعدة حجّية قول أهل الخبرة»، أو رأي المتخصصين في أي مجالٍ من العلوم والمعارف. وبموجب هذه القاعدة العُرفيّة والعقلائية يكون الرجوع في كلّ الأزمنة والمجتمعات إلى أهل الخبرة والمتخصصين، ولم يصلنا من الشّارع أيّ نهيٍ أو رأي متباين آخر بهذا الخصوص.

لقد أوجب الفقه الإسلامي حفظ النَّفس، وحَرَّمَ الإضرار بالنفس وبالآخَرين. وإن علم الطب يُعد من المقدّمات اللازمة لحفظ النفس، التي تُعد من أوجب الواجبات. وفي صيام شهر رمضان الواجب شرعاً، إذا شخّص الطبيبُ بأن الصيّام مُضرّ بصحّة المريض على المكلَّف أنْ يعمل برأي الطبيب وألّا يصوم. وفي أيّام الحَجّ إذا تفشّى مرضٌ في مكّة والمدينة، أو في طريق السفر، (لا سيّما إذا كان مَرَضاً مُسرياً) أجمع الفقهاء في فتاواهم بأنَّ الحجّ الواجب في مثل هذه الظروف ساقط، أي غير واجب. إن الأحكام التي ذكرتها تُعد من الآراء المُتفَق عليها لدى الفقهاء الشيعة. فعلى سبيل المثال أنقل بهذا الصدد رأي السيّد أبو القاسم الخوئي (1899-1992م) أستاذ كثير من الفقهاء المعاصرين: «يستند في جواز الإفطار الى حجة شرعية من خوف عقلائي، أو ظن الضرر، أو اخبار طبيب حاذق ثقة مع عدم بلوغ الضرر الثابت بالطريق الشرعي المسوغ للإفطار حد الحرمة.» (مستند العروة الوثقى، كتاب الصَّوم)

إذن اعتبار الخبرة يأتي من حيث خبرويته وتخصصه، للارتكاز العقلائي في الرجوع إلى المتخصص في أيّ عِلم. وإن هذه القضيّة لا تُعَد من الأمور المستحدثة، ولا من الاكتشافات الجديدة. وإنّ قوّتها تبلغ حدّاً يُغنيها من إمضاء الشّارع وتأييده، إذ أنّها منهجية عقلائية معتمدة على مدى التاريخ، ولم يصلنا من زمن النبيّ وأئمة أهل البيت أيّ نَهي عنها، ولنا أن نطمئن ونقول بأنّها كانت المنهجية المقبولة لدى النبيّ والأئمة. وثمّة آيات قرآنية مثل ﴿فاسألوا أهلَ الذّكرِ إن كنتم لا تعلمون﴾ [النحل/43 و الأنبياء/7] تؤيّد هذه السيرة العقلائية. وقد عَـدَّ المحققُ الخوئي هذه القاعدة دليلاً على حجّيّة قول المجتهد بالنسبةِ لمقلّديه. (التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب التقليد) وبناءً على هذا المَبنى يكون تشخيص الأطبّاء في مجال تخصصهم مُعترَفاً به بنحوٍ كاملٍ في الفقه الشيعي.

وببيانٍ آخَر، تُقسَّم الأحكام الفقهية على قسمَين: الأحكام المولوية والأحكام الإرشادية. الأحكام المولوية هي تلك الأحكام التي أصدرها الشّارع (الله أو رسوله)، وإن اعتبار القول يستند لأمر الشّارع. والأحكام الإرشادية ناظرةٌ إلى حُكم العَقل. بمعنى أن صدور هذه الأحكام يأتي تأييداً ومساندةً لحُكمِ العَقل. كلّ الآراء التي نقلتَها عن المراجع المعاصرين هي «أحكام إرشادية». فثمّة كثير من الأحكام الفقهية في باب المعاملات إنما هي أحكام إرشاديّة. ويجب أن نشكر المراجع والفقهاء الذين يصدرون مثل هذه الأحكام المترقيّة. إن الفقاهة في تعاملها مع القضايا الطبيّة يتحتّم عليها حثّ النّاس على الالتزام بالتعليمات والضوابط الطبيّة والصحيّة، وإن هذا الحَثّ والتشجيع لا ينفي أبداً الشق الآخَر من مهام علماء الدين، أيْ الحَثّ على الدعاء والتوكّل على الله، والتحلّي بالصَّبرِ في مقام البلاء.

الصّورة المَرسومة عن الفقه الشيعي في نصّ السؤال [سؤال الشخص المحاوِر] تأتي من التجاهل المفرط؛ إن الدعوة إلى الدعاء والمعنويات بحسب رأي كلّ الفقهاء لا تأخذ دورَ معالجة الطبيب. والتوسّل يأتي في هامش مقولة التوكّل، وليس أكثر من ذلك. التلقّي المتداوَل عن التوسّل قد ينسجم مع المتبنيّات الشيعية المغالية، ولكن لا يمكن أن نعدّه من خصائص اللاهوت الشيعي بنحوٍ مطلَق. وقد تناولتُ موضوع التوسّل في موضعٍ آخَر، ولستُ بصدد إعادتها هنا: (ظ: تأملاتٌ حول التوسّل / منشور في 14 أيلول 2016) بل حتّى الشيعة الذين يؤمنون بالتوسّل ليسوا كذلك، إذ لا تجدهم يتركون استشارة الطبيب ويقتصرون على التوسّل! هذه فكرة تنافي الواقع وغير منصفة لا تنطبق حتّى على هذه الفئة من الشيعة. لو بحثنا في الفقه الشيعي منذ بدايته وحتّى الآن، لا نجد أحداً منهم –سواء من بين الأصوليين أو الإخباريين- قد أفتى بأنَّ الشيعة عند الإصابة بالأمراض عليهم الاكتفاء بالتوسّل بالنبيّ أو الأئمّة «بدلاً عن مراجعة الطبيب». علم الفقه في صيغة السؤال قد شُبّه خطئاً بحِرفة تلاوة الأدعية!

وأمّا بالنسبةِ لتعفير المسجد الحرام ومسجد النبيّ ومراقد أئمة أهل البيت وأضرحة أبناء الأئمة بالكحول وبالمواد المعقّمة الأخرى فإنّه ليس أمراً جديداً. من الواضح أن هذا المرض بسبب تفشّيه قد أصبح مسرياً بنحوٍ أشد. إن مراعاة الضوابط الصحيّة في الدين الذي أعلن نبيّه بأنَّ النظافةَ جزء من الإيمان لا يكون أمراً غريباً أو جديداً. إذا كان قصدكم نجاسة الكحول يجب أن نعلم أوّلاً بأن الفقه الشيعي: لا يعدّ الكحول الميثيلي أو الميثانول نجساً، وثانياً: يرى بعض الفقهاء الشيعة بأن مطلق أنواع الكحول ليست نجسة، وإنْ كان شربه من المحرّمات المؤكّدة. وهذا هو رأييَ الفقهي أيضاً؛ وعليه ما الإشكال الشَّرعي في تعفير الأماكن الدينية بالكحول؟ لا يوجَد أيّ إشكالٍ على الاطلاق!

وبالنسبة لِلعلمانية الشيعية التي استنتجها نصّ السؤال فإنّها مَبنيّة على مقدّمات قد اتضح عدم صحّة كلٍ منها بالدليل والشواهد. وعليه فإنّ مثل هذه النتيجة لا تظهر من مثل هذه الوقائع. ومن الواضح أيضاً بأن المراد من العِلمانيّة في نصّ السؤال هو العِلمانيّة الذهنية أو الفلسفيّة أو إنكار الله أو الإلحاد. ومِن منظرٍ آخَر نجد أن فايروس كورونا قد يُبَدِدُ التلقّيات الخرافيّة لأيّ دينٍ ومذهب، سواء أكان التشيّع الخرافي، أو التسنن الخرافي، أو المسيحية أو اليهودية الخرافية وغيرها. وبموازاة الخرافات التي يؤمن بها الشيعة المغالون نجدها أيضاً بين المسيح الانجليكيين، واليهود الارثذوكس، وبين الهندوس التقليديين، لاسيّما في هذه الأيّام التي تخيّم عليها أخبار وباء كورونا. قبل سنوات أفتى الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصريّة (من 2003 إلى 2013) في كتاب «الفتاوى العصريّة اليوميّة» وفي محاضرات وجلسات عدة، بطهارة بول النَّبي، وثبوت جواز شربه من قبل الصحابة بنيّة التبرّك، وقدَّم أدلّته الروائية على ذلك. وفي قضيّة أخرى كان هاشم بطحائي أحد أعضاء مجلس الخبراء [في إيران] يعتقد بأنَّه سيُشفي من كورونا ببركة التربة الحسينية. الخرافة لا تختصّ بمذهبٍ ودينٍ معيّن، ولا شكّ في أن وقائع مثل كورونا ستكتسح مثل هذه الخرافات، ونِعمَ ما تفعل! لقد تناولتُ هذا الموضوع في مقال (كورونا والدين الذي يكون أفيوناً للشعوب – المنشور في 18 آذار 2020). ولكن ما وجه العلاقة بين تبدد هذه التلقّيات الخرافية و«العِلمانيّة الشيعية»؟! لا توجَد أيّ علاقةٍ بين الأمرَين. إلا اللهم إذا اعتقدنا واهمين بأنَّ الشيعة كلّهم يعتقدون بمثل ما يعتقد به أمثال هاشم بطحايي، وإن أهل السنّة كلهم يتفقون مع علي جمعة، فبصرفِ النظر عن فتواه كان فقيهاً نيّراً. على أيّ حال، كلا التوهمان يخالفان الواقع وبعيدان عن الانصاف.

إن الحكومات في أنحاء العالَم وفي مثل هذه الأزمات، تدعو علماء الدّين، الذين يمتلكون تأثيراً على المتدينين، إلى أن يحثّوا أتباعَهم للإلتزام بالتعليمات الصحيّة، ويمكن أن نلمس هذه المضامين بسهولة في رسائل الزعماء الدينيين في الأوساط اليهودية والمسيحية. فهل يا ترى يقوم الفقهاء والمفتون السنة –سواء في إيران أو في الدول الأخرى- بعملٍ غير هذا؟! إن الفقه ضمن حدوده، كأيّ علمٍ آخَر، علم نافع وقابل للاحترام. وإن الرأي المذكور الذي جاء في مقام «الدفاع عن الصحّة العامّة وللعمل بتوجيهات المتخصصين في علم الطّب» لا يُعد خروجاً عن حدود الفقه على الاطلاق.

إن إبداء الرأي في الأمور الطبيّة على نوعَين: يتضمّن النوع الأوّل التوجيهات والإرشادات الطبيّة، فيما يتضمّن النَّوع الآخَر وصايا خاصّة للالتزام برأي الأطبّاء والتعليمات الصحّية المعتمدة لدى الأطبّاء. النَّوع الأوّل من الآراء محصورٌ بالوسط الطبيّ، ومَن يتدخّل في هذه الآراء مِن غير المتخصصين، بما فيهم الفقهاء، يجب إخضاعه للمساءلة القانونية. النَّوع الآخَر لا يقتصر على الوسط الطبّي، بل يصنَّف ضمن الحقوق العامّة، وهو أشبه ما يكون بالأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكَر. وإن السياسيين والعاملين في الشؤون الحكومية من جانب، والفقهاء وعلماء الدين من جانبٍ آخر، مُجازون، بل إنّهم «مُكلَّفون» بإسناد النظام الصحي ودعوة النّاس إلى الالتزام بالضوابط الصحيّة واتّباع الإرشادات الطبيّة. إن المتصدّين للشأن الحكومي من خلال تشريع وتنفيذ القوانين، وعلماء الدين من خلال الوصايا الأخلاقية والشَّرعية يقومون بهذه المهمّة. وإن الأوساط الطبيّة في أنحاء العالَم لا يتقصر موقفها على الترحيب بمثل هذه الخطوات التي يقوم بها علماء الدين، بل الأطباء يطالبون ويناشدون الوسط الديني للقيام بذلك.

وبالنسبةِ لإيران فإن جملة من رجال الدين صرّحوا على وفق النَّوع الأوّل من هذه الآراء وثمّة فئة أخرى صرّحوا على وفق النَّوع الآخَر. تُصنَّف تصريحات عبّاس تبريزيان من النّوع الأوّل، بمعنى أن تدخل غير المتخصص في القضايا طبيّة مردود جملةً وتفصيلاً. الآراء التي ذكرتَها في السؤال السابق تُصنَّف من النّوع الثاني، وهي قابلة للدفاع، وإنها ليست بمعنى التدخل في الشؤون الطبيّة. وعليه لا يبقى أيّ مجالٍ لمثل هذا السؤال [الذي طرحه الشخص المحاوِر]. وإن تصريحات محمّد سعيدي خطيب منبر الجمعة في قم، والمتولّي الشَّرعي على حرم السيّدة المعصومة –الذي عدَّ المرقد داراً للشِفاء، وأبدى مخالفته لغلق المرقد- تُصنَّف ضمن النَّوع الأوّل من الآراء، وليست من النَّوع الثاني.

ثمة تباين بين الأحكام الإرشادية ولزوم اتّباع الضوابط الطبيّة ومراعاة التعليمات الصحيّة والموارد التي ذكرتَها. إنَّ الاقتصاد والسياسة ليست من مهام الفقهاء. بالطّبع على وفق نظرية ولاية الفقيه لدى السيّد الخميني فإنّ كلّ هذه الأمور تقع ضمن ولاية الفقيه المطلقة، ولكنّ هذه النظرية في الفقه الشيعي إنّما هي نظرية «الأقليّة المطلقة»، إذ أن أغلب الفقهاء الشيعة يقرّون بهذا التفكيك المبارَك، وأشير بهذا الصدد إلى واحدٍ منهم بنحوٍ مقتضَب. الشَّيخ محمّد حسين الغروي الاصفهاني المعروف بالكمباني (1878 – 1942م)، الفقيه والحكيم ومِن أعمدة علم الأصول في الفقه الشيعي، كتب قبل قرنٍ من الزمان: «الفقيه بما هو فقيه أهل النظر في مرحلة الاستنباط، دون الأمور المتعلقة بتنظيم البلاد وحفظ الثغور وتدبير شؤون الدفاع والجهاد وأمثال ذلك، فلا معنى لإيكال هذه الأمور إلى الفقيه بما هو فقيه.» (حاشية كتاب المكاسب) وإنَّ اثنَين من تلامذته المبرَّزين، أيْ السيّد أبو القاسم الخوئي في (التنقيح في شرح العروة الوثقى، وكتاب الاجتهاد والتقليد) والسيّد محمّد حسين الطباطبائي في كتاب (الميزان، وفي تفسير آيات سورة النساء) قد سلكا نهج أستاذِهما. وقد نقلتُ هذه الآراء درستُها قبل أزيد من عشرين عاماً في كتاب الحكومة الولائية. (ظ: الاستدلال البديع للغَروي الإصفهاني على عدم ولاية الفقهاء السياسية، منشور في 13 كانون الأوّل 2017)

وأمّا بالنسبة للأمثلة التي تُذكَر حول تدخل الفقهاء في الاقتصاد، أيْ الربا والخمس والزكاة. الخُمس والزكاة يُعدّان من الضرائب الدينية ويختلفان عن الضرائب العُرفيّة، وإن اللجنة المنتخبة من بين المتدينين في أيّ مسجدٍ وفي أيّ منطقة تشرف على تجميع وصرف هذه الأموال على الأمور الشرعيّة المحددة، ولا يجوز للحكومات أن تتدخل في هذه الأمور. (بالطبع بعض الثيوقراطيات مثل نظام ولاية الفقيه المطلقة تتدخل في كلّ شيء.) وفي الدول الديمقراطية العلمانية مثل الولايات المتحدة فإنّ أتباع كلّ واحدةٍ من الديانات يدفعون ضرائبهم الدينية إلى مراكزهم الدينية وليس للدولة. ولتشجيع الشؤون الخيرية إذا أبرز المواطن للدولة نسخةً من إيصال الإستلام بالمبلغ الذي دفعه للكنيسة سيُخصَم ذلك المبلغ من ضرائبه التي يدفعها للدولة.

وأمّا الربا فإنّه مُحرَّمٌ في الأديان الإبراهيمية ويُمنع التعامل به، مع وجود اختلافٍ في حدوده وثغوره. إن الفقهاء والعلماء في أيّ دين يُعلنون للمتدينين فتاواهم بخصوص المعاملات الرَبَويّة. إذا كان علماء الدين يستطيعون تبيين آرائهم عن طريق العقل العام (public reasoning) ويقدرون على إقناع أغلبية المواطنين فإنَّ رأيهم من شأنه أن يتحوّل إلى «قانون عُرفي» من خلال سَنّه في المجلس التشريعي. وإذا لم ينجحوا في ذلك فإنَّ القانون العُرفي في البلد يأخذ مساره، والحُكم الشَّرعي يأخذ مساره. وفي غالب الدول الإسلامية التي لا تُدار بالحكومة الدينية (أيْ أكثر من خمسين دولة) يجري العمل على وفق هذه الآليّة. وإنَّ الأغلبيّة القاطعة لهذه الدول هي دول سُنّية، سوى أربعة تحكمها حكومات يصطلح عليها بالإسلاميّة، والأحكام الشَّرعيّة فيها بمثابة القانون الحكومي، وأعني كلّاً مِن المملكة العربيّة السعودية، وثلاثة ما يُصطلَح عليها بالجمهورية الإسلامية، أيْ: باكستان وموريتانيا وإيران. إن هذا الموضوع في هذه الدول يحتاج إلى دراسات ميدانية. وبالنسبة لإيران فإن مجمَل الوَضع واضحٌ وبَيّن، وأغلب المراجع غير راضين عنه! إن إحدى أفضل الدراسات التي أُنجِزَت حول موضوع الربا في العالَم الحديث نجدها في مجموعةٍ من المقالات التي كتبها المفكّر السنّي وأستاذ جامعة شيكاغو الراحل فضل الرّحمن (1919-1988)؛ فالقضيّة أكثر تعقيداً مما يمكن عرضها في سؤالٍ واحد.

الوهم الذي تستبطنه مثل هذه الأمور يُقصي جميع الفقهاء بفكرةٍ واحدة، وأنا أعدُّ هذا الأمرِ ضرباً من التفريط في ردّة الفعل بإزاء إفراط رجال الدين الحكوميين في خروقاتهم طوال العقود الأربعة الأخيرة. إن لكلّ من «الأصوليين الحكوميين» و«التقليديين الحوزويين» و«المفكّرين الأكاديميين» دوراً مستقلاً، والأسئلة المذكورة دمجت الفئة الأولى والثانية في فئةٍ واحدة، وعمَمَتْ مواقف وآراء الفئة الأولى على الجميع. هذا التعميم خطير ولا يستند إلى شيء. فحتّى للتقلديين أيضاً اتجاهات عدّة، مثلما يكون الأمر بالنسبةِ للإصلاحيين المسلمين، فإنّهم في المسائل الأساسية لا يفكّرون بنمطٍ واحد. يجب معرفة هذه التنوعات والتعددية واحترامها؛ فليس من المقرر بناء مدينةٍ فاضلة بتسطيح الأفكار. الكراهية والشَّغَف، كلاهما يشكلان عائقاً أمام المعرفة الواقعية. وإنّي على خلاف التشاؤم والحساسيّة المفرَطة تجاه الفقاهة أنظر لهذه المعرفة الإنسانية نظرة منصفة وعادلة، كنظرتي لسائر المعارف الإنسانية. أخشى من أن تتحوّل هذه المماحكات الإفراطية إلى «عِلمانيةٍ متطرّفة» مشابهة للعِلمانية الفرنسية.

لا يُرجى من الفقه سوى الحديث عن أربعة مجالات: المناسك (الصَّلاة، الصَّوم، الحَجّ، الزكاة)، وأشباه المناسك (أحكام المأكَل والمشرَب والعلاقات الجنسية)، والخطوط العَريضة لبعض المعاملات (من قبيل تحريم الرّبا)، وضمان القضايا الأخلاقية (من قبيل حُرمة الكذب ووجوب حفظ الأمانة). وقد أوضحتُ هذه الأمور في هذه المقالات: ما يُتوَقَّع من الدين وتحديث الفكر الديني (منشور في: 24 تموز 2017) والعَلاقة بين الفقه والقانون (منشور في: 7 تشرين الأوّل 2018). الملاحظات التي أشرتُ إليها لا يقرّ بها إلا مَن كان مؤمناً بالكتابِ والسنّة المعتبَرة، ولكن مَن تجاوز على الصعيد العَمَلي النصوص الإسلاميّة الرئيسة، ولم يتبقَّ له من الدين (وليس التشيّع والإسلام فقط) سوى الاعتقاد بالله، وفي خارج إطار الأديان الإبراهيمية، أي في إطار الربوبيّة/ deist)، أو من تجاوز ذلك أيضاً وصار يؤمن بمعنويّة وروحانيّة أعمّ من ذلك، (spiritualist)، أو مَن تخطّى ذلك وأمسى على الصعيد الفكري والعَمَلي «عِلمانياً ذهنياً أو فلسفياً»، مِن الواضح إن كلّ هؤلاء لا يحتاجون لمثل هذه المباحث والدراسات، ويعدّونها مضيعة للوقت. بالطبع لِلعِلمانية المذكورة في نصّ السؤال موضوعية بالنسبةِ لمثل هؤلاء الأفراد، فليس من المقرَّر أن يفكّر الجميع بنمطٍ واحد.

 

القسم الاول من حوارٍ مع محسن كديور، منشور في موقع زيتون، بتاريخ 30 آذار 2020، حاوَره (طه بارسا)

القسم الثانی من الحوار