الخير الوفير في الحفاظ على حريّة الإنسان واختياره، أم الإلغاء التكويني للشرور القليلة في الطبيعة والأخلاق؟

جائحة كرونا وعرض «مشكلة الشَّر» مِن منظور الفلسفة الإلهيّة

1- جائحة كورونا والأزمات الراهنة ومشكلة الشَّر

يشكّل وباء كورونا أزمةً دولية، وإن الإنسان في القرن الواحد والعشرين قد وجد نفسه عاجزاً جداً أمام فايروس صغير ومجهري، فهو فايروس لا يمكن محاربته بالأسلحةِ النووية والصَّواريخ. لا يعرف هذا الفايروس أيّ حدودٍ ولا عِرقٍ وقوميّة ودينٍ ومذهب، ولا يعرف فقيراً ولا غنيّاً ولا رجلاً ولا امرأة. يمضي بقسوة، ويؤثّر على كلّ العلاقات والقضايا والشؤون البشريّة.

عند وقوع أيّ حادثةٍ مريرة ومُحزنة قد يستفهم الإنسان عن دور الرّب وعمّا يقوم به الآن. الإجابة البسيطة التي يمكن ذكرها عن مثل هذا السؤال تقول: بإن السبب في كلّ هذه الشرور والبلايا هو الله، وبهذا الغياب وبعدم تحمّل المسؤولية لم يبقَ أيَّ مجالٍ للإيمان برحمةِ الله وحكمته. إذا كان اللهُ لا يعلم شيئاً عن كوارث هذا الفايروس، وعن طرق التصدّي له، عند ذلك لا يكون هناك أيّ معنى لعِلمه المطلق. أَما كان اللهُ قادراً على منع انتشار هذا الفايروس المشؤوم؟ إذا كان غير قادرٍ على ذلك فهذا يعني أنّه لا يمتلك قوّة مطلقة؛ وإذا كان يستطيع، ولكن لم يبادر بشيء فإنّ حكمته ورحمته تتعرَّض للتشكيك والسؤال. هذا هو نفس «برهان الشَّر» أو مشكلة الشَّر المعروفة، وإن نتيجتها لا تقتصر على نفي صفات الجلال والجمال عن الله، بل تنفي أصل وجود الله أيضاً. [بمعنى] إن الله الذي لا يمتلك علماً وقوّةً وحكمةً ورحمةً لمواجهة الكوارث الطبيعية والإنسانيّة فإنّه غير موجود أساساً، انتهى!

البراكين، والزلازل، والسيول، والعواصف، والمجاعة والأمراض المُسرية قد فتكت بكثيرٍ من المضطهدين والأبرياء وقتلتهم ولا زالت تفعل ذلك. وفي الحروب حين تحصل ممارسات مثل الاغتصاب والتعذيب والحبس والحصار وغيرها من الممارسات الإجرامية البشرية، يعاني ويتعذّب جرّاءها كثير من الأبرياء، ويتعرّضون لإصابات جسديّة وروحيّة لا تُجبَر، وهنالك الكثير ممن يفقدون حياتهم. وفي الممارسات الإنسانية غير المتعمّدة أيضاً يتعرّض الأبرياء لخسائر روحية وجسديّة فادحة لا يمكن تعويضها، وحتّى يفقدون حياتهم. في وقتنا الراهن قُتِل مئات الآلاف من المسلمين الروهينجيين في ميانمار على يد الحكومة البوذيّة المتطرّفة، وإن قصف الطائرات السعوديّة وحلفائها أدّى إلى مقتل آلاف المينيين الأبرياء، منهم الكثير من الأطفال الصغار، وهنالك المجاعة شديدة في دولٍ أفريقيّة عدّة، وتهجير لملايين السوريين بسبب ديكتاتورية بشار الأسد، وأحداث الهولوكوست (كارثة إبادة اليهود على يد هتلر)، وتهجير وعذابات الفلسطينيين المستمرّة على يد الدولة الإسرائيلية الغاصبة، ولاسيما الضغط الذي تمارسه على أهالي غزّة المضطهدين، ومقتل مجموعة من مواطنينا الأبرياء في فيضانات العام الماضي، وإعدام السجناء الأبرياء في سجون إيران في الثمانينات، ولاسيما في صيف 1988، وقمع مظاهرات المحتجّين الإيرانيين وسفك دمائهم على يد القوّات الحكومية في الجمهورية الإسلامية في تشرين الثاني 2019، إذ لم يجرأ أيّ أحدٍ حتّى الآن على الكشف عن الاحصائية الرسميّة لأعداد ضحايا تلك الأحداث، وهكذا مقتل 176 إنسان بريء في حادثة الطائرة الأوكراينية بعد دقائق على اقلاعها من طهران، ومؤخّراً وفاة أزيدَ من 3600 مواطن إيراني على وفق الاحصائيات الرسميّة بسبب وباء كورونا، وأزيد من 60 ألف إنسان بريء في أرجاء العالَم بسبب هذا المرض، كلّ هذه الوقائع والأحداث تشكّل قائمةً بالكوارث والشرور الطبيعية والجرائم الإنسانية.

مَن يَنسب ضحايا هذه الشرور إلى الله، سواء أكانت شروراً طبيعية أو إنسانية، فإنّ له توقّعات خاصّة من الله، يمكن ذكرها كالآتي:

أ. خلق العالَم من دون الظواهر الطبيعية (البراكين، الزلازل، الفيضانات، العواصف، المجاعة والأمراض المُسريّة) هو أمر ممكن ومطلوب.

ب. وإذا افترضنا أن هذه الظواهر الطبيعية كانت أموراً لا بدّ منها، كان على الله لِزاماً أن يبادر على أقل تقدير إلى وضع أسباب ووسائلَ لِلوقاية من هذه الظواهر.

ج. في الشرور الإنسانيّة، كان على الله لِزاماً أن يمنع حدوث العذاب والألم والاغتصاب والحبس والحصر والقتل بحق الأبرياء.

في العالَم الخالي من الشرور الطبيعية والإنسانيّة لا يموت أيّ إنسانٍ بالشرور الطبيعية، ولا يُصاب بسوء، ولا يفقد أمواله وممتلكاته. وفي مثل هذا العالَم لا أثر للحروب والعُنف والقيود التي يفرضها الظالمون على الأبرياء؛ ولا أحد يُسجَن، ولا أحد يُعذَّب، ولا أحد يُغتصَب، ولا يتعذّب ولا يموت أيّ أحدٍ في الحرب أو في حوادث السَّير، أو جرّاء المجاعة والعقوبات. في مثل هذا العالَم الخالي من الشرور فقط يمكن الإيمان برحمة الله وبحكمته وعِلمه وقوّته. في حين إن العالَم الراهن مكتظّ بأنواع الشَّرور، وإنّه ليس أفضل العوالم الممكنة؛ ليس هذا فحسب، بل مع وجود مثل هذه الشرور لا يمكن الحديث عن هذه الصفات الأربعة عند الله. إذن يمكن القول بأنَّ اللهَ غائبٌ عن العالَم المصاب بالشَّر، أو إنه غير قادرٍ على مواجهة هذه الشرور.

بالطَّبع إن هذه الصورة الخيالية عن العالم الخالي من الشرور تكون مثيرة ولافتة، ولكنّها للأسف قضيّة غير ممكنة وغير مطلوبة. إنّها غير ممكنة لأنَّ ما يُسمّى بالشرور الطبيعية يُعد من لوازم هذه الدنيا الماديّة التي لا تنفكّ عنها. فلكلٍ من هذه الأمور عِلل طبيعية. في فترات جهل الإنسان بأسباب الظواهر الطبيعية، كانت تُنسَب هذه الظواهر إلى غضب الآلهة، على أنّها من نتائج ذنوب النّاس ومعاصيهم. ولكن في وقتنا الحاضر، ومن خلال اطلالة نسبيّة على الأدلة والأسباب العِلمية لهذه الظواهر يمكن التنبؤ ببعضٍ منها قبل أن تحدث (مثل العواصف والفيضانات)، ويمكن الوقاية من بعضها الآخَر بإحكام المباني والمنازل (الزلازل)، وببناء عوائق وسدود أمامها (الطوفان والفيضانات)، وبانتاج اللقاحات (في كثير من الأمراض الخطيرة التي كانت في الماضي تسبب بإبادات جماعية)، وهكذا من خلال مراعاة الإرشادات الصحيّة، والوقاية (بالنسبةِ لسائر الأمراض) يمكن الحَد من أعداد الضحايا في هذه الظواهر إلى حد كبير.

إن هذه الظواهر التي تُعد من لوازم النظام الطبيعي في الكوَن، والتي لا تنفك عنه، دفعت بالعقلِ الممنوح من الله أن يُفعّل نفسه، وأن يُطوّر معارفه ليجد حلولاً ناجعة للوقاية وللحدّ من الضحايا. إن دولة مثل اليابان المشهورة بكثرة الزلازل، نجدها اليوم لا تتعرّض لسوءٍ حتّى عند حدوث الزلازل القويّة بدرجة ثمانية ريختر. وفي الجائحة الراهنة نجد أن كوريا الجنوبية قد نجحت في السيطرة على الإصابات بالفايروس من خلال القرارات الدقيقة والتخصصية. ولكن في إيران نجدهم بعد مماطلة طويلة، وبعد ما يقارب ستة أسابيع على انتشار الفايروس، قد قرروا فرض الحجر على المُدن (وحظر التجول بين المحافظات). طاب مساعهم المتأخّر! مَن المسؤول عن التعتيم الاعلامي وعدم الاعلان عن تفشّي الفايروس للرأي العام؟ ومن المسؤول عن هذا التأخر في فرض الحظر الذي جاء بعد ستة أسابيع؟ الله؟ الإسلام؟ اللاهوت الشيعي؟ أم اللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية الذي ترسَّخ لدى المسؤولين الحكوميين في نظام الجمهورية الإسلامية؟

2- تدخل الله لإزالة الشرور الإنسانية أم الحفاظ على حرية الإنسان؟

وأمّا بالنسبة لإزالة الشرور الإنسانية من خلال تدخل الله لإزاحة الظالمين، أو من خلال إلغاء آثار ظلمهم من أجل الدفاع عن المظلومين، فإنه أمر غير ممكن وغير مفيد وغير مطلوب. إن العالَم الذي لا يمكن فيه ارتكاب الشرور الإنسانية ينافي حريّة الاختيار لدى الإنسان. إذ أن كرامة الإنسان تكمن في حريّة إرادته، وفي اختياره الواعي والحُر للخَير. ولكن بالوهم الداعي إلى تدخل الله ضدّ الأفعال البشريّة سيُزال الشَّر عن المجتمعات، بيد أنّ في غياب الشَّر سيفقد الخير معناه وقيمته. إذ أن المجتمع الإنساني يكتسب معناه من خلال مواجهته للخير والشَّر اللذَين يختارهما الإنسان بحُريّة. إنّ ما كُنّا نعدّه خيراً في كثيرٍ من السجالات والنزاعات، سيُكتَشَف لاحقاً بأنه كان أمر خاطئ؛ وفي بعض الأحيان نجد كلا الطرفَين على خطأ. وهنا لنا أنْ نسأل: حين يُطالَب الله بالتدخل وبإلغاء أثر ممارسات الشَّر، يا تُرى أثر أي واحد من طرفَي النزاع يجب أن يلغيه؟ إذا قيل بأنّه يجب أن يشمل الطرف الذي يكون واقعاً على حقّ، في مثل هذا الحال ستكون صورة المجتمعات البشريّة كقصّة الخضر وموسى (ظ: سورة الكهف، الآيات 60-82)، وهذا لا يمكن تعميمه على جميع الحالات. ما نسبة الفائدة من الحياة في ظلّ هذه الظروف غير الطبيعية؟ في مثل هذا المجتمع المنزوع من الشَّرور من قِبَل الله، لا يمكن الفصل بين الصالح والظالم، لأنّ المُسيء غير قادر على تنفيذ نواياه السيئة.

إن الدنيا أو العالَم المادّي مملوء بالشرور الطبيعية والبشريّة. وعالَم المجرّدات والآخرة إنما هو خيرٌ محض، ولا يبلغه الشَّر. نحن كلّنا سنخوض تجربة العالم الخالي مِن الشرور. ولكن السَّعي لخلق مثل هذا العالم هو مثل ذلك الفردوس الذي كان قادة الجمهورية الإسلامية ينوون بناءه، ولكنّه اتَّضحَ لاحقاً بأنه ضرب من الجَحيم! إن الدنيا تكون دنيا من خلال ظواهرها الطبيعية وشرورها الإنسانية، وإن الله وأنبياءه قد علّمونا بأنَّ الدنيا هي دار بلاء، وفي الآخرة يكون الوصول لنتائج الأعمال. ولمواجهة الشرور الدنيوية منحنا اللهُ العقل لنتخذ التدابير والأساليب العلمية من أجل خفض حجم الخسائر إلى أقل قدرٍ ممكن. وإذا عجزنا عن مواجهة الشَّر علينا التحلّي بالصَّبر. إن الشرور الطبيعية والإنسانية هي وسائل للابتلاء والاختبار.

إنَّ أوهام نزع الشرور عن الطبيعة وعن المجتمعات الإنسانية تُعرقل البناء المعرفي في الأديان الإبراهيمية، ولاسيّما الإسلام، وتُبعثرُ النسبةَ القائمة بين الدنيا والآخرة والعالم المادّي والمجرّدات، وتسلب المعنى من التعاليم الدينية المعتبرة من قبيل التوكّل والصَّبر والرَّجاء. والأهمّ من كلّ ذلك نجد العرفان الإسلامي الذي يمثّل القراءة الذوقية والباطنية للإسلام، يقدّم أروع المعالجات لمشكلة الشَّر، ويبلور مقامات من قبيل الرضا والصَّبر والتوكّل والرجاء. وللحكماء المسلمين جهود لافتة في التبيين العقلائي لمشكلة الشَّر. بمثل هذه الأدبيات الدينية والمذهبيّة والفلسفيّة والعِرفانية الغَنيّة تمكّن الفكر الإسلامي من هضم مشكلة الشَّر بنَوعَيها الطبيعي والبشري.

3- مشكلة الشَّر في الفلسفة الإسلامية

صرّح العالِم المحترم الدكتور عبد الكريم سروش بأنّ اللاهوت الإسلامي أو الفلسفة الإسلامية لم تعالج مشكلة الشَّر بنحوٍ جاد ورصين، وإن اللاهوت اليهودي والمسيحي تعامل مع هذه القضيّة بصورةٍ جادّة. حبَّذا لو يقدّم الدكتور سروش مقالاً أو رسالةً أو كتاباً يوضّح لنا بنحوٍ موثَّق ومُبرهَن بأنّه كيف يفكّر حول المقدّمات الثلاث التي تقدّم ذكرها في هذا الجواب بخصوص انتساب الشَّر لله؟ وما الانتقادات التي يوجهها لدعاوى أمثال ملا صدرا (في المجلّد السابع من الأسفار) أو للسيّد محمّد حسين الطباطبائي (في نهاية الحِكمة) حول الشرور؟ ما الحلول الناجعة التي قدّمها اللاهوتيون اليهود والمسيح لبرهان الشَّر (ما عدا التسليم المطلق!) حتّى جعلت الدكتور سروش يأخذ بها ويتقبس منها؟ لا شكّ في أن التضارب العِلمي بين الآراء والدراسة التطبيقية الموثّقة تسهم في الارتقاء بمستوى الحِكمة والعرفان واللاهوت الإسلامي في هذا الموضوع.

إن تفكيرنا الفلسفي والعرفاني والديني لا يتأثّر بفايروس كرونا وأمثاله، بل سيمضي بنحوٍ أقوى من قبل. إنّ الذي سيتأثّر، والذي يجب أن يتأثَّر، هو التخريف الديني والمذهبي. إن تفشّي كرونا في مدينة قم وانتشارها من هناك بدد كثيراً من خرافات التشيّع المغالي، مثلما فعلت فاجعة الهولوكوست وبددت أسطورة شعب الله المختار التي يؤمن بها اليهود في عصرنا. في عصرنا الراهن لا يوجد شعب مختار من الله، لا اليهود، ولا المسلمين (بنحوٍ عام، والشيعة بنحوٍ خاص)، ولا أي فئةٍ أخرى. ولا توجَد أيّ مدينة مُستثناة مِن السُنَن الإلهيّة. ما يكون سبباً في التقرّب إلى الله هو الإيمان والعمل الصالح، وليس شيء آخر، وهو ما تُبَرَّز آثاره في الآخرة. كلُّنا في هذه الدنيا نأكل من كدّ يَميننا، ومرهونون بأعمالنا، والله حاضر في كلّ مكان وناظر لكلّ شيء. ولكنَّ «السنّة الإلهيّة» على مدى التاريخ ما كانت يوماً تعوّل على التدخل المباشر في الشؤون الطبيعية والبشريّة.

4- وجود الشرور وتقسيم العوالم (العالَم المادّي، عالَم المجرّدات، عالَم الآخرة)

إن عالم المجردات يختلف عن عالم الآخرة. وإن لنا في هذه الدنيا نوعَين من العوالم في أقل التقديرات: العالَم المادّي وعالَم المجرّدات. العالَم المادّي هو هذا العالَم المحسوس، وعالَم المجرّدات هو عالم غير محسوس ومجرّد عن المادّة. تقسّمه اللغة الدينية على عالَم الغَيب والشّهادة، والمراد مِن الشهادة هنا هو العالَم المادّي المحسوس والناسوت، والمراد من الغَيب هو عالَم الملكوت والجبروت الذي ينطبق على المجرّدات غير المحسوسة. إن الله والملائكة أو الكروبيين كجبرئيل أو روح القدس، يقعون خلف حُجُب الغَيب، والوحي أيضاً من أنباء الغَيب. ومن الواضح أيضاً بأن الله والملائكة غير غائبين عن الدنيا، بل إن هذه الدنيا حافلة بهم. إن العالَم الذي يلي الدنيا هو البرزخ أو عالَم القَبر، ومن ثمَّ يليه عالَم الآخِرة أو القيامة. وإن ضمائرنا في هذه الدنيا مخفيّة، وفي الآخرة يحين موعد إبراز كلّ الخَفيّات.

وأما المعاد الروحاني والجسماني كالمعراج الروحاني والجسماني فقد بحث فيه المتكلمون والفلاسفة. لقد عدَّدَ الحكماء المسلمون إشكالات المعاد الجسماني، وسعوا في تأويل ظواهر الآيات والرويات المرتبطة بهذا الموضوع. فقد ذهب شهاب الدّين السهروردي (ت:587هـ) إلى إمكانية المعاد الجسماني بالبَدَن المثالي. وفي القرن العاشر الهجري وَضَعَ المتكلّم والفيلسوف الكبير في مدرسة شيراز العقلية، المير غياث الدين منصور الدشتكي (ت:948هـ) الخطوة الأولى في التبيين الفلسفي للمعاد الجسماني، وإن ملا صدرا الشيرازي توسَّل بالمباني التي ابتكرها الدشتكي، وراح في الحكمة المتعالية يقيم أولى البراهين الفلسفية للمعاد الجسماني. وبعد قرنَين ونصف، جاء آقا علي المدرّس الطهراني وأقرّ بالأصول الصدرائية، ولكنّه بيّن بأنّها غير متممة، وبهذا عرض رأياً جديداً لإثبات المعاد الجسماني من الناحية الفلسفيّة. يرى الطهراني بأنَّ الحكماء الإلهيين لم ينكروا المعاد الجسماني، وإن فئة قليلة من أمثال ابن سينا عجزوا عن إقامة البراهين العقلية عليه. ولكنَّ الأخير نفسه صرّح بكلّ تواضع بأنّ قبول المعاد الجسماني مرهون بتصديق الصّادق المصدَّق (أيْ: رسول الله). وإن أولى الحكماء الذين أقرّوا بمنهج آقا علي المدرّس الطهراني في مسألة المعاد الجسماني كانوا كلّ من الشَّيخ محمّد حسن الغروي الاصفهاني (ت: 1942م)، صاحب المنظومة الفلسفية المعنوَنة بتحفة الحكيم، والميرزا أبو الحسن الرفيعي القزويني. وقد بادر الأستاذ المحترم الدكتور غلام حسين إبراهيمي ديناني بشرحِ آراء آقا علي المدرّس حول المعاد الجسماني في كتابٍ مستقل. وأنا أيضاً بدوري أصدرتُ أوّل تصحيح نقدي لرسالة آقا علي المدرّس تحت عنوان «سبيل الرشاد في إثبات المَعاد»، مع مقدّمة تحليلية في تأصيل المعاد الجسماني في الفلسفة الإسلاميّة، وصدر الكتاب بِقُم في عام 1996، وأصدرتُ في الجزء الثاني في عام 2000 بطهران مجموعة مصنفات الحكيم المؤسس آقا علي المدرّس الطهراني.

أنْ تكون الشرور الطبيعية والإنسانيّة مختصّة بالدنيا، وأنْ تكون عالم المجرّدات والآخرة فارغة من الشَّر (ولعدم حصول اللَّبس أؤكّد بأنّهما عالَمان مختلفان)، لا يُعد رأيي فقط، بل هو رأي متَّفَقٌ عليه في اللاهوت الشيعي وفي الحِكمة والعرفان الإسلامي. وإذا وجد أحدٌ مشكلةً في قبول هذا الرأي عليه مراجعة هذه المعارِف الثلاث، وأن يقدّم نقداً مُستدلّاً ومُبَرهناً لِلمبانيه الدينية والفلسفيّة والعرفانيّة.

وإذا قال أحدهم لماذا يخلق اللهُ عالَماً توجَد فيه الشرور وألم النّاس وعذاباتهم؟ ولماذا لم يكتفِ منذ البداية بعالَم المجرّدات؟ الإجابة المُجمَلة عن ذلك تكون كالآتي:

لأنَّ مثل هذا الأمر ما كان ممكناً. فالعالَم الماديّ إنما هو عالم التزاحم والتضاد، والشَّرُّ أمرٌ نسبيّ. إنَّ ما يكون لبعضِ الأفراد سبباً في الخسائر، أو عاملاً في زوال المنافع وجلب الألَم، هو من لوازِم الطبيعة. فالعالَم المادّي مِن دون الظواهر الطبيعية كالبركان والزلازل والسيول والعواصف والأمراض (وما يصطلَح عليه بالشرور الطبيعية) هو عالَمٌ غير ممكن. يكفي الرجوع إلى الجيولوجيين وخبراء جغرافيا المناخية والطَّقس وعلم الأحياء والحيوان، وغيرهم من المتخصصين في العلوم التجريبية.

وأمّا لإزاحة الشرور الإنسانية فلا يوجَد أيّ حل سوى سلب حرية الاختيار من الإنسان في انتخاب الشَّر، بمعنى أن البشريّة كلّها تكون غير قادرة على إرادة الشَّر وممارسته. ولتحقق ذلك يلزم تبدّل الإنسان إلى ملاك، فالملائكة لا تريد إلا الخير ولا تمارس سواه. وبعبارةٍ أخرى لخلق عالَم من دون شر يلزم قلب ماهيّة الإنسان من كائن مختار إلى كائن مجبور. الكائن الأخير بطبيعة الحال سوف لا تكون له آلام ومعاناة، ولكنّ سيفقد حلاوة الاختيار، وسوف لا يتذوّق الابتلاء والصَّبر والارتقاء إلى المراتب العالية مِن الكمال الإنساني. بعبارةٍ أخرى إن من لوازم طبيعة الإنسان المختار هو وجود الشَّر الأخلاقي أولاً، وثانياً تمكّنه من انتخاب ذلك. ومن دون تحقق هذين الأمرَين لا قيمة أخلاقية لانتخاب الخَير، ومن الجانب الديني لا يستحق مثل هذا الانتخاب الثواب أو العِقاب. إن الاكتفاء بعالم المجرّدات (من قبيل الملائكة) التي لا تعصي ولا تذنب تعني حرمان عالَم الوجودِ من إنسانٍ استحقَّ خلافة الله وسجود الملائكة. ولذا فإنَّ الاختيار والحريّة كزهرةٍ لا تَينَع أبداً من دون أشواك الألم والمعاناة والابتلاء.

وهناك من يسأل أليس الأصل في عدم معاناة الإنسان؟ هل الفكر الإنسانَوي (Humanism)، قبل طرحه مثل هذا السؤال، أَثبَتَ إمكانية وجود عالَمٍ طبيعي وإنساني خالٍ من مطلق الألم والمعاناة الإنسانية؟ هل إن وجود مثل هذا العالَم، على افتراض إمكانية وجوده، مفيدٌ؟ إجابتي سلبيّة. لا يمكن، في ضوء الأدلّة الفلسفيّة المتقدّمة. وإنه غير مطلوب، لأنَّ البُنى التحتيّة لجماليات الكرامة الإنسانية تتمثّل بتحمّل الألم والمعاناة للوصولِ إلى الكمال الإنساني. إذا أزيلَت الأمراض ستظلّ قيمة الصحّة والسَّلامة مجهولة، وإذا ظلَّ العالَم ممتلئاً وحافلاً بالراحة والرَّغَد، سوف لا تتحصَّل عظمة الروح الإنسانية التي تذوب في بوتقة البَلاء. إن نصوصنا الدينية والعِرفانية بحارٌ عميقة وشاسعة مِن المعارِف القيّمة حول هذا الموضوع.

5- الابتلاء والاختبار

الابتلاء والاختبار لا يعني العقوبة والعذاب. إن العالَم المادّي هو منزل التزاحم والتضاد، والإنسان المختار الحُر يجب أن يواجه شَرّاً ليختار الخيرَ بكامل حريّته ووعيه، وليبلغ الكمال الإنساني، فمن لوازم الحُريّة، الذي لا ينفكّ عنها، هو وجود أفراد يختارون الشَّر خطئاً، ويجدون سعادَتهم الكاذبة في معاناة الآخَرين. إن الحرب بين الخَير والشَّر تشكّل تاريخ حياة الإنسان، ولاضفاءِ المَعنى على الخير والحريّة والاختيار، لا سبيل إلى ذلك سوى وجود الشَّر وإمكانية اختياره وممارسته. وإذا كان ثمّة إشكال في الأمر فإنّه ليس من فاعليّة الفاعل (الله)، بل من قابليّة القابل (الإنسان والطبيعة). بمعنى إن النقصان هو أمر ذاتي في العالم المادّي ولدى الإنسان المختار.

إنَّ الله هو الدّاعي المطلَق للخَير، وإن إرادته الحكيمة تتعلّق بالأمور الممكنة، وليس بالأمور الممتنعة والمستحيلة. لا يمكن أن ينتج عن ضرب العدد 2 في 2 العدد 5. ولا يمكن أن نتهم اللهَ ونقول لماذا لا يستطيع أن يجعل الناتج لِضرب العدد 2 في 2 العدد 5. إن امتناع العدد 5 عن أن يكون ناتجاً لضرب 2 في 2 لا علاقة له بقوّة الله أو بخيره المطلَق. إذا كنتَ تريد إثبات زعمك عليك في بادئ الأمر أن تُثبت «إمكانية» حصول مثل هذا الأمر، عند ذلك اتهم الله. إن مطلبك من الناحية الفلسفيّة يُشبه من يروم جعل العدد 5 ناتجاً لضرب 2 في 2. ملخص كلامي في بدايته ونهايته هو الآتي: إنَّ الشَّر القليل هو من لوازم العالَم المادّي، وإن حذفه ممتنِعٌ عقلاً. وإن تحمّل هذا الشَّر القليل يوصل الإنسان للخَير الكثير. إن وجود الشَّر القليل هو من لوازم العالَم المادّي، وإن الإنسان بطبيعته وماهيته هو كائن مختار وحُرّ. والعالَم الخالي مِن المعاناة والألم هي أسطورة مستحيلة، وإن عدم إمكانية وجود مثل هذا العالم لا يمثّل إشكالاً على الله.

6- دَور الله في العالم الراهن، لا سيّما عند حدوث الشرور؟ غائب أم ناظر أم فاعل؟

دَورُ الله أكثر جديّة وأعمق مما نتصوّر. العالَم بكلّ تفاصيله ووجوده محتاج إلى الله؛ وفيما يرتبط بالكائنات الماديّة (الطبيعة والإنسان) لا يقتصر هذا الاحتياج على زمن الولادة والإيجاد، بل إن الكائنات تظلّ محتاجة في كلّ لحظةٍ من الحياة. إن الاحتياج لله هو أكثر من احتياج الكائن الحَيّ للهَواء. وفيما يرتبط بالكائنات المجرّدة أيضاً فإنّ إمكانهم يظلّ محتاجاً وبنحوٍ مستمر للموجود الغَنيّ المطلَق. عرَّفَ صدرُ الدّين الشيرازي بأسلوبٍ رائع وجود غير الله، سواء أكان ماديّاً أو مجرّداً، بـ«الوجود الفَقْري»، أيْ الموجود الذي يكون فقيراً في ذاته، ومحتاجاً لمبدأ الوجود. هذا الفقر والاحتياج لا ينفصل أبداً عن وجودنا الإمكانيّ. فكلّ الوجود، ما خلا الله، فقير مطلق، والغنيّ المطلق الوحيد هي الذات الربوبيّة.

إن العالَم المجرّد والعالَم المادي، حافلان وممتلئان بوجودِ الله، بمعنى أنّه لا يوجَد أيّ أحدٍ وأيّ مكانٍ خالٍ من علمه وقوّته ورحمته وحكمته، فهو الحاضر المطلق، وموجود في كلّ مكان. وبالطبع مشاهدته تتطلّب نوعاً من البصيرة، فَعَلى حدّ تعبير عليّ بن أبي طالب: عَمِيَت عينٌ لا تراك. من لا يرى اللهَ بعين قلبه ولا يلمس حضور فإنّ قلبه أعمى. إن قرآننا وعرفاننا يتضمنان هذه السَّرديّة العظيمة. أما الحديث عن الله الغائب أو لاهوت الغَيبة فإنّه يتضمّن نظرةً وَضعيّة (Positivism) لله سبحانه.

كيف يُدير اللهُ العالَم؟ يُدار العالَم بـ«السنن الإلهيّة». يرى الفردُ الموحِد بأنَّ هذه السُنَن هي تلك القوانين التي يكتشفها العلماء تدريجاً في العلوم التجريبية والتاريخ والعلوم الاجتماعية. أي القوانين التي يكتشفها في الطبيعة علماء الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وعلوم النَّبات والحيوان والنجوم والجغرافيا والمناخ، وغيرها من العلوم التجريبية تشكّل جزءاً من السنن الإلهيّة في الطبيعة. والقوانين التي يكتشفها علماء الطّب والأعصاب، والمتخصصون في الدماغ والأعصاب وجسم الإنسان وعلم الأحياء تشكّل جزءاً آخَر من هذه السنن الإلهيّة. والقوانين التي يضعها المؤرخون والانثربولوجيون وفلاسفة القانون والحقوق والسياسة وعلم الاجتماع تشكل جزءاً من السنن الإلهيّة في التاريخ والمجتمعات الإنسانية. والقوانين التي يستخرجها المتكلمون من النصوص الدينية، أو تلك التي توصّل إليها الفلاسفة في جهودهم العَقليّة، أو التي لمسها العرفاء من خلال مشاهداتهم الذوقية، تُصنَّف ضمن أعظم السنن الإلهيّة في معنى الحياة والمبدأ والمَعاد.

إنّ اللهَ وجودٌ «مُلزِمٌ نفسَه بالقانون»، ويحترم سُننه كثيراً ولا يتخطّاها. وإن عدم التدخل يعني عدم نقض هذه السُنَن الإلهية، ولا يعني الغَيبة عن الطبيعة أو التاريخ أو المجتمَع. إن الله ناظِرٌ لا يخفى من عِلمه مثقال ذرّة، وإن العالَم برمّته، بقسمَيه المادّي والمجرد، خاضع لقوّته المطلقة. وإن أفعاله كلّها محفوفة بالحِكمة، وهي عَين الرَّحمة. وإن مبناه لا يقتضي أبداً تجاهل هذه السُنَن والدخول المباشر في المعركة لصالح أحدِهم أو شيءٍ ضد أحد آخر أو شيء آخر في الدنيا. فهذه السُّنَن ليسَت ناقصة لتحتاج في أيّ لحظةٍ لمُلاحَظةٍ فرعيّة ولتدخلٍ منه لإكمالها ولتعويض النقص فيها. لا يلزم التدخل إلا حين تكون السُّنَن غير ناجعة وناقصة، وببيانٍ آخَر حين لا يكون العالَم الموجود أفضل عالَمٍ ممكن. وقد أثبتُّ [فيما تقدَّم] بأنَّ العالَم المادّي يحتوي الشَّر القليل للوصول إلى الخَير الكثير، وإنّ هذا الشَّر القليل لا يُزال ولا يُحذَف. على أنَّ المقصود لا يعني بأنّ حذفه ممكن، وإن الله لا يعلم، أو لا يستطيع، أو لا يريد، فتأمّل جيّداً.

إن الزلازل والبراكين والفيضانات والعواصف والمجاعة والأمراض تشكّل جزءاً من العالَم الماديّ الذي لا يمكن حذفه. على أنَّ هذه الأمور ليست شَرّاً بحدّ ذاتها. وهكذا بالنسبة للكائنات المفترسة والفتّاكة التي تشكّل جزءاً من نظام الطبيعة وتقدّم منافع في الطبيعة. وبالنسبةِ للإنسان فإنّه استطاع من خلال عقله الممنوح من الله أن يواجه هذه الظواهر الطبيعية، وأن يتفوّقَ على أضرار الطبيعة، ليوصل الإصابات والخسائر إلى أقلّ قدرٍ ممكن. إن معاناة الإنسان المعاصر من الظواهر المذكورة، بالمقارنة مع أسلافه، أصبحت أقل بكثير، إذ انحصرت الخسائر والمعاناة والآلام بتلك الظواهر التي لا يمكن التنبؤ بها، ولم يبلغ مستواه العِلمي لمعرفتها. وسنشهد قريباً بأن فايروس كورونا، بعد اكتشاف المصل المضاد والعقاقير الخاصة بمعالجته، سيلتحق بأمراضٍ من قبيل الإنفلونزا وآبولا ومالاريا والطاعون والكوليرا.

حين تحدث هذه الظواهر الطبيعية أين يكون الله؟ الله حاضرٌ وناظر. وما يستعمله الإنسان لمواجهة أضرار هذه الظواهر الطبيعية، كالعقل والقوى الجسدية والذكاء والمواهب والصحّة والابتكار، كلّها ممنوحة من الله. نحن أشبه بسمكةٍ تغفل فضل الماء الذي تعيش فيه، وتنسى بأنَّ كلّ ما هو حيّ هو بفضل هذا الماء. إذا نظرنا للقضيّة من زاوية الفلسفة الوضعيّة والتجريبيّة والماديّة فسوف لا يكون هناك أيّ إله. إن غاية ما تراه مثل هذه الرؤية ينحصر بالعالَم المادّي، وليس هناك أيّ قيمةٍ لحُكمها في الميتافيزيقيا. فالفلسفة التي تقرّ بـ«برهان الشَّر»، تعدّ اللهَ غائباً أو ميّتاً. ولكنَّ الفلسفة الإلهيّة من قبيل الحِكمة المتعالية تُثبِت بِقوّة الحضور النافذ لله، وإن عرفاء من أمثال ابن عربي والسنائي وجلال الدين الرومي والعطّار والسيّد حيدر الآملي، أو ميستر إكهرت قد شهدوا اللهَ وحضور الله، ويُذهَلون يهيمون عند هذه المشاهدة. وإنَّهم يستمتعون لوقوع هذا البلاء على أعتاب حبيب الروح.

ولكنَّ الحرب والتعذيب والاغتصاب والسجن والأسر والقمع والضغط والعنف والفَرض وسلب الحريّات، وغيرها من المحدوديات الإنسانية المنافية للأخلاق، كلّ هذه المفردات هي من لوازم حريّة الإنسان واختياره. هذه الأمور شَّر مِن دون أدنى شك، وثمّة أفراد يمارسون هذه الشرور لمنافعهم الشخصيّة، ويتسببون بمعاناة وألم الآخَرين. لا تُزال هذه الشرور عن المجتمعات الإنسانية إلا إذا سُلِبَت من الكائن البشري حريّة الاختيار بين الخير والشَّر، وأصبح الإنسان كائناً لا يصدر عنه إلا الخَير. إن مضار سلب الاختيار والحُريّة من الكائن البشريّ أكثر بكثير من مضارّ الشرور الإنسانية. ومثلما تقدّم ذكره أكثر من مرّة، هذه الشرور هي من لوازم النَّوع البشري التي لا تنفك عنه، ولا يمكن حذفها وإزالتها، إلا اللهم إذا أصبح الإنسان كائناً آخر، وصار كالملائكة، فاقداً الحريّة لممارسة الشَّر.

أنْ نتوقَّع من الله التدخّل عند وقوع الشرور الأخلاقيّة والإنسانية، وأن ينقض السنن الإلهيّة وينزل للمعركة بنحوٍ مباشر، هذا يعني عدم حدوث أيّ شر، وعدم تعرَض أيّ شخصٍ للقَتل، وأن يبادر الله بنفسه ويمنع الإرهابيين من ممارسة الشَّر، وعلى هذا المنوال تصبح كلّ مآسي التاريخ سالبة بانتفاء الموضوع. ما مدى إمكانية أو مطلوبية مثل هذا المجتمع الذي لا يحدث فيه الشَّر، وبالتالي لا يكون فيه فرق بين الإنسان الصالح والإنسان الظالم؟ في واقع الأمر لا يمكن! لقد منح اللهُ العقلَ والضمير الأخلاقي والفطرة التي يبحث بها عن الله وعن الحق، وهكذا أرسل الأنبياء والرسل لهداية الإنسان ليدلّوه على الطريق السَّوي للعَيش، وليحذروه مِن القُبحِ والسوء. ولكنّ الله، في الوقت نفسه، ترك الإنسان حُراً في الاستماع إلى صوت العقل والفطرة والوجدان، وفي اتّباع تعاليم أنبياءه في هذه الدنيا، وقد أخبره بأنّه سيحاسبه في يوم القيامة بحسب صحيفة أعماله، وسيجزي المحسنين، ويعاقب الظالمين.

إنّ أنصار برهان الشَّر يريدون عالماً نظيفاً وخالياً من الشرور القليلة الطبيعية والأخلاقية، ويطالبون اللهَ، بالإضافة إلى «إرادته التشريعية» التي تناهض الشَّر وتساند الخير، أن تكون «إرادته التكوينية» أيضاً تبادر إلى حذف الشَّر وتعمل على تحقق الخير الكامل في هذه الدنيا. بمعنى أنّه بدلاً عن الحث على فعل الخير والإرشاد إليه، وبدلاً عن النَّهي عن ارتكاب الشَّر، عليه ألا يسمح أبداً بحدوث أيّ شَر طبيعي وأخلاقي في الدنيا، وأن يتبدل العالَم الراهن إلى عالَمِ المجرّدات أو عالَم الآخَرة، الخاليَين مِن كلا أنواع الشَّر. إن مثل هذا التوقّع أولاً: غير ممكن (ويخالف موازين العالَم الطبيعي، وفطرة الإنسان التي فطرت على الحريّة والاختيار)، وثانياً: إنه يضرّ الكائن البشري. ففي مثل هذا العالَم المفترَض يفقد الخيرُ معناه، وتصبح الآخرة عبثاً، ويستحيل كمال الإنسان.

إن القائلين ببرهان الشَّر ينشدون عالَماً يُحذَف فيه الشَّرُ بـ«الإرادة التكوينية» أو بـ«الإجبار الإلهي». في الديكتاتورية الخَيّرة أو الاستبداد المستنير أيضاً تقوم الحكومةُ بسلبِ حريّات النّاس لتسوقهم نحو تحقيق أهدافها التي تزعم بأنّها حقّة. تقول مثل هذه الحكومة في استدلالها لتبرير هذا الفعل بأنَّ النّاس إذا تُركوا أحراراً فإنّه يرتكبون الذنوب. لذا نسلب عنهم عنوةً إمكانية ارتكاب الذنب في المجال العام. الحكومة في مثل هذه الحالة تتخذ القرارات بدلاً عن الناس، وتنوي سوق الجميع إلى الجنّةِ بالأغلال. نُقّاد مثل هذه الحكومات يعتقدون بأنَّ المجتمع الذي تسلب منه حريّة الخطئية لن يبلغ أبداً؛ فأنْ تكون ثمّة أقليّة ترتكب الذنوب وأكثريّة تبتعد عن الذنوب باختيارها وبكامل حريّتها أفضل وأكثر قيمةً مما نسلب إمكانية ارتكاب الذَّنب (أو الشَّر) عنوةً. وبهذه المناسبة لنا أن نتسائل ما الفرق بين استدلال القائلين ببرهان الشَّر في اللاهوت، واستدلال مَن يُبرر الديكتاتوريات الخَيّرة في مسألة سَلب حريّات النّاس؟! لا فرق بينهما! بعبارةٍ واحدة: إن حريّة النّاس واختيارهم، بعد العقل، هي أعظم نعمةٍ وهبها اللهُ للإنسان، وإن سلبها، مهما كانت الأسباب، يؤدّي إلى أكبر شرٍ ممكن، وهو شَرٌّ أعظم وأخطر بكثير من الشرور الطبيعية والأخلاقية القليلة. هذا هو لُبُّ كلامي في نقد برهان الشَّر.

وأمّا بالنسبة للإلهِ الذي أؤمن به أنا، أقول بلغةِ أهل الحِكمة والفلسفة: إنَّ إلهي هو إلهٌ «ألزَم نفسه بالقانون»، ويتمثَّل قانونه بـ«السُّنَن الإلهيّة»، وإنّه بهذه السُّنَن يكون حاضراً في شؤون الكون والإنسان، وهكذا يظلّ ناظراً وفعّالاً. إنّ إله كديور يصون حريّة الإنسان واختياره بأعلى قدرٍ قد يمكن تصوّره. وعند حدوث الشرور الطبيعية القليلة يأسَف إذا ما وجد الإنسان لم يسلّح نفسه لمواجهة هذه الظواهر الطبيعية، وعند وقوع الشرور الإنسانية يغضب بشدّة على الظالمين الذين يغتصبون حقوق سائر عباده، ويحزن عميقاً حين يرى عباده المضطهدين يعانون من الآلام والأوجاع. ولكن بالنظرِ إلى الخير الكثير الموجود في حريّة الإنسان واختياره فإنّه قد أحال مسألة عقاب الظالم وإثابة المظلوم إلى عالَم الآخرة. المستعجلون ومَن يكون أفقهم محدوداص بالعالَم المادّي (أو مَن يقول: مَن الذي شهد الآخرة؟!) يرومون جلب الجنّة الأخروية إلى هذه الدنيا من خلال حذف الشرور القليلة الدنيوية، ناهيك عن كونهم بمثل هذه القراءة يحوّلون الدنيا إلى جحيم. يعشق كديور هذا الإله الحافظ لحريّة الإنسان واختياره، ويلمس حكمته ورحمته بكلّ وجوده. إن ذكره عند الصعاب والبلاء يكون أكبر مصدرٍ للسكينة، ومناجاته ورفع الدعاء إلى حضرة جلاله يضفي على روح الإنسان قوّةً تجعل أيَّ عُسرٍ قابلاً للتحمّل.

وفي الختام أشكر تحمّل وصبر القرّاء الكرام. ثمّة ملاحِظَ أخرى حول الشَّر والسُّنَن الإلهية والرحمة والحكمة الإلهية، أحيل مناقشتها والحديث عنها إلى مجالٍ آخر. أتمنّى للقرّاء الكرام السَّلامة والسَّعادة.

 

القسم الثانی من حوارٍ مع محسن كديور، ومنشور في موقع زيتون، بتاريخ 30 آذار 2020، حاوَره طه بارسا

اِعداد وترجمة حسن الصرّاف

القسم الاول من الحوار