مصباح العنف والاستبداد الديني

محمّد تقي مصباح اليزدي (1934-2021) رحل عن هذه الدنيا في اليوم الأوّل من عام 2021. وتيرة تسارع الأحداث في هذه الأيّام قد بلغت حدّاً لا تتيح مجالاً ليمكن تناول كلّ منها بنحو مستقل. سأعرض في هذا المقال وبنحوٍ مقتضب جدّاً ذكرياتي الشخصية مع هذا الراحل، بالإضافة إلى شيءٍ من خصائصه السياسية.

أنا ومصباح

أ. كان مصباح اليزدي تلميذ السيّد الطباطبائي في الفلسفة. يتضمّن كتابه «تعليقة على نهاية الحكمة» لأستاذه، ذروة تأملاته الفلسفية. لقد تعلّمتُ منه هذه الدروس بصورة غير مباشرة: نهاية الحكمة (بين عامَي 1984و 1988)، برهان الشفاء (في عام 1992)، المجلد الثامن من الأسفار (بين عامَي 1992 و1993) وإلهيّات الشفاء (بين عامَي 1993-1994). وقد حضرتُ في مجلس درسه لدراسة كل من: أصول العقائد (النبوّة والإمامة) [المعروف بالفارسية بكتاب راه و راهنماشناسى] بوصفه درساً جانبياً إلزامياً في حوزة قم العلمية في السنة الدراسية 1988-1989، وكذلك درس فلسفة الأخلاق في مرحلة الماجستير في قسم الإلهيات والمعارف الإسلامية في مركز تربيت مدرس بِقُم، في الفصل الدراسي الثاني من عام 1990-1991.

ما أتذكّره من دروسه في الفلسفة الإسلاميّة هو بيانه الواضح والوجيز والمفرَّغ من الحشو والزوائد، وبإلقاء منتظم ونقيّ. لقد كان متمكناً في تقرير البراهين الفلسفية، ولاسيّما الفلسفة المشائية، وبالمقارنة مع أقرانه كان أكثر تمكناً وإلماماً في هذا المجال. ليتَه ظلَّ في مجاله الفلسفي المحض ولم ينتفل إلى مجال آخر. طالعتُ من بين كتبه في تلك الفترة ذاتها كتابَي تعليم الفلسفة ومعارف القرآن.

كان المرحوم مصباح منذ أكثر من ثلاثين عاماً وبسبب الضغوطات التي عرَّض نفسَه إليها في أيّام شبابه يعاني من أمراض في الجهاز الهضمي وكان غير قادر على الاستمرار في المطالعة والكتابة، ولذلك كان يكتفي بإلقاء المحاضرات والدروس الشفهية.

ب. التقيته في التسعينيات في ورشة بحثيّة، حيث كان الملتقى العلميّ الأوّل حول ولاية الفقيه الذي أقيم في مركز الأبحاث العلميّة التابع للأمانة العامة لمجلس الخبراء في قم (من 27 إلى 29 كانون الثاني/يناير 1995) بدعوةٍ من المرحوم إبراهيم أميني (ت: 2020)، نائب رئيس الخبراء ومسؤول الأمانة العامة آنذاك. كان مصباح اليزدي متحدّث الجلسة الافتتاحية في هذه الورشة، فقد تحدَّث عن التنصيب الإلهي للفقهاء وولايتهم على النّاس ولايةً مطلقة. بعد كلمته استأذنتُ مدير الجلسة وتحدثتُ لبضعة دقائق في نقد كلمة مصباح، ولا سيّما في نقد تصريحاته حول التنصيب الإلهي لهذا المقام، وعن إمكانيته على الصعيد العملي وعن الفقهاء المنتقدين لنظرية التنصيب. كان أعضاء الهيئة الرئاسية لمجلس الخبراء (ما عدا هاشمي رفسنجاني) وفقهاء مجلس صيانة الدستور وأعضاء جماعة العلماء والمدرسين في حوزة قم من الحاضرين في هذه الجلسة. ولكن مداخلتي النقديّة لم ترق لكثيرٍ من المستمعين.

بعد الجلسة الافتتاحية شرعت اللجانُ الثلاث (لجنة مبنى ولاية الفقيه، ولجنة صلاحيات ولاية الفقيه، ولجنة المرجعيّة والقيادة) بأعمالها بعد التحضيرات المسبقة. كان المرحوم عباس علي عميد الزنجاني (ت:2011) رئيس اللجنة الأولى، والمرحوم محمّد تقي مصباح اليزدي رئيس اللجنة الثانية وغلام رضا مصباحي (و: 1951) رئيس اللجنة الثالثة. كانوا قد وضعوا اسمي في اللجنة الأولى التي كانت مهمّتها الرئيسة عقد مقارنة بين نظرية التنصيب والانتخاب في الفقه والدستور. فيما عنت اللجنة الثانية بنظرية ولاية الفقيه المطلقة ودائرة ولاية الفقيه العابرة للحدود. أمّا اللجنة الثالثة فكانت تعنى بالعلاقة بين المرجعية وولاية الفقيه، ومسألة الفصل أو الدمج بين الأمرَين، وكذلك جواز أو عدم جواز التصرّف في الأموال الشرعيّة من قبل المراجع الآخَرين الذين ليسوا بقائد.

بحسب ما أفاده تقرير الأمانة العامة لمجلس الخبراء فإنّ لجنة صلاحيات ولاية الفقيه برئاسة مصباح اليزدي نفَّذت 90% من المَحاور المعدَّة سلفاً! ولجنة المرجعية والقيادة نفذت 70% منها، ولجنة مبنى ولاية الفقيه 40% من المحاور. لقد قمتُ مع أبو الفضل شكوري (و: 1956) في اللجنة الأولى بتوجيه النقد إلى مبنى التنصيب بالاستناد إلى دروس الأستاذ الشيخ المنتظري. وعلى خلاف اللجنتَين الثانية والثالثة لم ينجح مدافعو الفكرة الرسميّة المنضمين في هذه اللجنة من تمرير نظرية التنصيب. كان السيّد محسن خرازي (و: 1937) من أهم المناصرين لنظرية التنصيب ضمن أعضاء هذه اللجنة. استأنفت هذه اللجنة أعمالَها في (شباط/فبراير 1996) ضمن جلسات مكثَّفة وذلك بدعوةٍ من رؤساء اللجان والأعضاء المبرَّزين فيها، وبحضور مجموعة مختارة من أعضاء (لجنة مبنى ولاية الفقيه). أتاحَت هذه اللجنة فرصةً أخرى للمباحثة المباشرة مع مصباح اليزدي. في أثناء المباحثة حول هذا الموضوع لم نلمس منه أبداً تلك الدقّة الفلسفيّة المعهودة منه. أتذكّر تماماً بأنَّ السيّد كاظم الحسيني الحائري (و:1938) أحد تلامذة السيّد محمّد باقر الصَّدر ومن أساتذتي في دروس خارج أصول الفقه اعترض ذات مرّة على مصباح اليزدي قائلاً: «لماذا تصرّح بآرائك من دون قراءة واطلاع؟!» الدفاع المستميت الذي أبداه أقطاب النظام أيضاً في معرض ذودهم عن نظرية التنصيب لم يحقق شيئاً. لم يشارك مصباح اليزدي في الموسم الثالث من هذا المُلتقى الذي أقيم في عام 1996!

ج. علاقتي مع مصباح اليزدي في فترة الاصلاحات (فترة رئاسة محمّد خاتمي) دخلت مرحلةً جديدة. بعد أن اطَّلع مصباح في اجتماعات الأمانة العامة لمجلس الخبراء على انتقاداتي لولاية الفقيه، بدأ في الاجتماع المشترك بين خطباء منبر الجمعة في أرجاء إيران وأعضاء جمعية علماء ومدرّسي حوزة قم وفضلائها، يُشير إلى ستّ مؤامرات ترمي إلى إضعاف القائد وتشويه أصل ولاية الفقيه. (ظ: جريدة رسالت، 28 أيار/مايو 1998). انتقد مصباح اليزدي في هذا الاجتماع آرائي من دون الإشارة إلى اسمي. وبعد اعتقالي من قبل محكمة رجال الدين وإصدار الحكم من تلك المحكمة غير القانونية قام بإدانتي. (جريدة كيهان، 18 نيسان/أبريل 1999) وبعد سلسلة محاضراته قبل خطبة صلاة الجمعة في طهران التي عرض فيها تبريرات شرعيّة للاغتيال وجواز تغييب الأفراد وخطفهم من دون الرجوع للمحكمة بحجّة التجديف والتطاول على المقدّسات أو توهين مقام القيادة أو النظام، قمتُ بإرسال رسالة من سجن إيفين داعياً فيها مصباح اليزدي للمناظرة. (جريدة خرداد، 23 آب/أغسطس 1999) وقد أعلنَت الرابطةُ الإسلامية لطلبة جامعة طهران أيضاً عن استعدادها لاستضافة المناظرة مع مصباح اليزدي. (جريدة صبح امروز، 24 آب/أغسطس 1999) ومن الواضح أيضاً عدم وصول أيّ جواب من مصباح اليزدي حول هذه الدعوة.

بعد مرور فترة عقدت جريدةُ رسالت في (31 كانون الأوَّل/ديسمبر 2000) مقارنة بين «الخطاب الثَّوري والكلام الملحمي للأستاذ مصباح ومناهضة كديور وأقرانه للثَّورة». بعد اطلاق سراحي من السجن أعلنتُ في محاضرة «المبادئ النظرية للاستبداد الديني» التي ألقيتُها في جامعة شريف التكنولوجية، عن استعدادي للمناظرة مع الأستاذَين مصباح اليزدي وجوادي الآملي. (الجريدتان: دوران امروز و آفتاب يزد، 5 آذار/مارس 2001)، ولكن في هذه المرّة أيضاً لم نتلقَّ جواباً. لقد تحوَّل مصباح اليزدي في تلك الفترة إلى أحد أبرز المنظرين للاستبداد الديني والعنف والترهيب باسم الإسلام، وقد أعلنتُ في حينها صراحةً «إنّي كافر بإسلامِ مصباح اليزدي». (الجرائد: نوروز، إيران، همبستكي، 2 آب/أغسطس 2001)

قام مصباح اليزدي في كلمته التي كان يلقيها قبل خطبة صلاة الجمعة بطهران بمهاجمتي ومهاجمة رئيس الجمهورية محمّد خاتمي (جريدة نوروز، 25 آب/أغسطس 2001). وهنا للمرّة الثالثة دعوتُ مصباح اليزدي للمناظرة حولَ «قراءتَين من الإسلام في إيران المعاصرة» (موقع إيرنا 26 آب/أغسطس 2001؛ والصحف والجرائد الصادرة في 27 آب/أغسطس 2001). أعلن تلامذة مصباح اليزدي عن استعدادهم للمناظرة بدلاً عن أستاذهم. (الجرائد: رسالت، فيضيه، برتو سخن، 17 أيلول/سبتمبر 2001) وقد ردَّت الرابطةُ الإسلامية لطلبة جامعة تربيت مدرس على تلامذة مصباح اليزدي: «تلامذة كديور مستعدّون لمناظرتكم» (جريدة نوروز، 19 أيلول/سبتمبر 2001). وفي نهاية المطاف رحل مصباح اليزدي عن هذه الدنيا ولم تجر هذه المناظرة أبداً، وأُرجئ اللقاء إلى يوم الحشر!

خصائص مصباح السياسية

انفرد مصباح اليزدي بجملةٍ من الخصائص، أشير إليها بنحو مقتضب:

1. كان صريحاً في كلامه ولم يخفِ ما كان يراه حقّاً. لم يكن مؤمناً بحقّ النّاس في تقرير مصيرهم، وكان يعتقد ببطلان الانتخابات والجمهورية والديمقراطية جملةً وتفصيلاً. وإنّي أرى بأنّ تبيينه لنظرية السيّد الخميني السياسية (ولاية الفقيه المطلقة التنصيبية) كان صائباً تماماً، وفي مقابل ذلك أعدُّ القراءةَ الديمقراطية لهذه النظرية التي يقدّمها الإصلاحيون ومناصرو الفقه السياسي الديمقراطي، بأنّها قراءة “ما لا يرضي صاحبه”. وبإزاء ذلك كان يعتقد بأن النظرية السياسية في الإسلام وكذلك رأي السيّد الخميني هي «الحكومة الإسلامية» (الحكومة الولائية المطلقة) وليس «الجمهورية الإسلامية»؛ ولذا يجب الدفع بالمجتمع نحو حذف الجمهورية وترسيخ الحكومة الإسلامية. إذا كان محمّد مؤمن القمّي (ت: 2019) ومحمّد يزدي (ت:2020) من أهم المدافعين عن النظرية الرسمية من الجانب الفقهي، فإنَّ مصباح اليزدي كان أهم المدافعين عن هذه النظرية من الجانب الفلسفي.

2. كان مصباح اليزدي من العاملين على إعداد وتنشئة الكوادر من أجل النظام، ولا يناظره في إعداد الكوادر سوى محمّد بهشتي (اغتيل: 1981) (مؤسس حزب الجمهورية الإسلامية) ومحمّد رضا مَهدَوي كني (ت: 2014) (جامعة الصادق). بدأ مصباح اليزدي هذا المشوار مع مؤسسة طريق الحق ومؤسسة باقر العلوم الثقافية، وإن مؤسسته المسمّاة «مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والأبحاث» التي تأسست في عام 1995 بدعمٍ من الموازنة الحكومية، تمثّل واحدةً من أكبر المدارس المعنيّة بإعداد الكوادر من أجل ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية، وإنَّ كثيراً من رجال الدين الحكوميين قد جرى اعدادهم وتنشئتهم في هذه المؤسسة.

3. كان مصباح اليزدي يجوّز استعمال القوّة المفرطة والعنف من أجل تمرير ما يراه حقّاً، فهو من اعتمد منبراً عاماً (منبر صلاة الجمعة) في إصدار جواز اغتيال المتطاولين على المقدّسات ومضعّفي النظام من دون الحاجة إلى المحكمة الصالحة والدفاع عن المتّهم. لقد كانت اغتيالات مدينة كرمان في عام 2001 تنفيذاً لفتواه، ويقال أن بعض الاغتيالات المتسلسلة المعروفة أيضاً جرت عملاً بفتواه. ولذلك يُعبَّر عنه بمنظّر العنف وإسلام القسوة وبوصفه أحد أهم المنتقدين للإسلام الرحماني.

4. حين تولّى الخامنئي منصب القيادة في عام 1989 كان مصباح اليزدي لا يعدّه مجتهداً (يُنظَر: الوثائق والأدلّة المذكورة في كتاب ابتذال مرجعيّة الشيعة). بيد أنّه منذ عام 1993 أصبح في الصف الأوّل من مناصري القائد الجديد، وعدَّ الخامنئي «أعظم نعمة من الله»، ونال لقاء ذلك فوراً لقب «مُطهريّ العصر» من لدن الخامنئي. يمكن القول وبكلّ صراحة بأن الخامنئي لم يمدح أحداً بقدر مدحه مصباح اليزدي. فقد كان الأخير أحد أهم المنظرين الثقاة في ترسيخ الاستبداد الديني، وقد آل به الأمر إلى أن يصرّح قائلاً: علينا أن ندرك محذورات صاحب المقام المعظَّم، وأن ندرك ونفهم نوايا سماحته وما يضمره وأن نعمل بها. لقد تفوَّق مصباح اليزدي في هذا المضمار على أمثال مؤمن القمّي ومحمّد يزدي، وأصبح رائداً في تبرير وترسيخ الحكومة الإسلامية. فضلاً عن أنّه قد أثبت ذروة حبّه وخضوعه للخامنئي بتقبيل أقدامه، وهو عمل لم يقم به حتّى أمام أستاذه السيد الخميني. فمصباح اليزدي فريدٌ في تقبيل أقدام القائد في نظام الجمهورية الإسلامية.

لقد فَقَدَ الخامنئيُّ في العام المتصرّم اثنَين من خيرة أصحابه في حوزة قم: محمّد اليزدي، ومصباح اليزدي. كتبتُ في تموز/يوليو 2009 مقالاً بعنوان «لماذا علي وحيد؟» الآن بعد التصفية الجسدية التي يقوم بها الملك عزرائيل قد غاب عن المسرح أكثر أصحاب القائد الحالي، وأصبح عليٌّ وحيداً بمعنى آخر.

وفي الختام لا أقدر على أن أخفي أسفي العميق على أمر جَلَل: كيف استطاع مصباح اليزدي أن يضحّي بالفلسفة والعلوم الإسلامية عند أعتاب السلطة الدنيوية؟

فاعتبروا يا أولي الأبصار.