شمس الدين: ولاية الأمّة على نفسها، بدلاً عن ولاية الفقيه

الفقيه والمفكّر الشيعي اللبناني محمّد مهدي شمس الدين (1936-2001) هو واحد من مُنكري نظرية ولاية الفقيه.[1] بمناسبة حلول الذكرى السنوية السابعة عشرة على رحيله[2] أستعرض بنحوٍ مقتضَب أهم آرائه المبتكَرة في مجال الفقه السياسي.

كان شمس الدين تلميذاً لدى السيدَين محسن الحكيم وأبوالقاسم الخوئي، وكان السيدان محمّد باقر الصدر وموسى الصدر من أقرب أصدقائه. هاجر شمس الدين في سنة 1969 مِن موطنه في النجف إلى بيروت، وظلَّ في لبنان حتّى نهاية عمره، ودُفِن فيها. أسس موسى الصّدر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان في سنة 1967، وبعد اختفائه في عام 1978 تولّى شمس الدين إدارة هذا المجلس حتّى تاريخ وفاته.

يُعد شمس الدين فقيهاً مستنيراً ومبتكراً، وقد ألَّف كتباً عدّة في موضوعات مختلفة كالنهضة الحسينية ونهج البلاغة ونقد العلمانية والاجتهاد وحقوق المرأة والفقه السياسي. وفي مجال حقوق المرأة له مجموعة بعنوان (مسائل حرجة في فقه المرأة): الكتاب الأوّل: الستر والنظر (1993)، الکتاب الثاني، أهلية المرأة لتولي السلطة (1995)، الکتاب الثالث والرابع، حقوق الزوجية، ويليه حق العمل للمرأة (1996). ومن مؤلفاته في مجال الفقه السياسي: نظام الحكم والإدارة في الإسلام (1955، الطبعة الثانية: 1992)، في الاجتماع السیاسي الاسلامي (1992)، التطبیع بین ضرورات الأنظمة وخیارات الأمة (1994، الطبعة الثانية 1997)، فقه العنف المسلح في الإسلام (2001). أغلب هذه العنوانات مترجَمة للغة الفارسية.

في الطبعة الثانية من كتاب (نظام الحكم والإدارة في الإسلام)، الصادر في عام 1992، وفي سياق انكاره لنظرية ولاية الفقيه، يقدّم شمس الدين نظريته المبتكرة بعنوان «ولاية الأمّة على نفسها»، مُعلناً عن كتابٍ له بهذا العنوان الذي سيصدر قريباً،[3] ولكن لم يصدر حتّى الآن. بيد أنّه عرض خلاصةً لهذه النظرية في مؤلفاته الأخرى. وأشير هنا بنحو مقتضب إلى هذه الابتكارات:[4]

1- إن الأحكام الإلهيّة (الثابتة)، أيْ الشريعة، هي أحكام نهائية، ولا يجوز التعدّي عليها مهما كانت الظروف. إن الأحكام المتعلّقة بالعبادات والنظام الأسري والمسائل الجنسية (المرتبطة بسلطة الإنسان على جسده وعلى جسد الآخرين)، ومسائل الربا تُعد جملة من هذه الأحكام الشرعية الثابتة. وما سوى الموارد المذكورة لا توجَد في الشريعة أحكام ثابتة. وفيما يرتبط بالنظام السياسي والدولة أيضاً لا توجَد أيّة أحكام ثابتة. إذ أن الأحكام اللازمة لتنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة، كالاقتصادية منها والسياسية والخارجية، إنما هي أحكام متغيّرة وزمانيّة، ويأفل زمانها مع انتهاء المصلحة الاجتماعية الداعية إلى اعتمادها. وبعبارةٍ أخرى تُعد هذه الأحكام وليدة ارادة المجتمع في تنظيم شؤونه، وأنها ليست أحكاماً شرعية، وتُسمّى في الفقه بالتبريرات: وهي، وإنْ ذُكِـرَت في الفقه، ليست من الأحكام الثابتة والشرعية، فكثير من المسائل غير الفقهية قد تناولها الفقه وبحث فيها.

2- تبيين الأحكام الثابتة والشرعية مسؤولية الفقهاء في زمن الغيبة، ومن مسؤولياتهم أيضاً القضاء، ولكن لا يشمل ما هو أبعد من ذلك مثل السلطة السياسية والحاكمية في الدولة، والولاية العامة للفقهاء لم تثبت، وأنّهم لا يُعدّون نوّاب الإمام المعصوم في تدبير الشؤون السياسية، وليس للفقيهِ ولاية على النّاس.

3- في زمن غيبة المعصوم تتولى الأمّة مقدراتها السياسية في إطار الشريعة الإسلامية، ويكون كلّ إنسان مسؤولاً والمجتمع وليّ نفسه، ومن هذا المنطلق فإن الأمّة تبني النظام السياسي لنفسها على أساس الشورى، أمّا الفقه فليس شرطاً لرئاسة الدولة الإسلامية المنتخبة.

4- لا بدّ أن تتناسب الدولة مع طبيعة المجتمع الذي تنطلق منه، وأن تمتزج في أعماق الأمة وعقول الناس، وأن تستفيد من التجربة الإنسانية. ومشروعية الدولة بصيانة الأمور الآتية: الأول: صيانة الثوابت الشرعية الإسلامية، الثاني: تأمين الحماية لكل عناصر ومكونات الشعب والوطن مسلماً أم غير مسلم، الثالث: إيجاد الأرضية المناسبة لتطور الثقافات الموجودة في المجتمع… أما استقرار الدولة الإسلامية العالمية في عصر الغيبة فليس لها أساس فقهي، ولم تثبت عنده.

5- لا تُشترَط الرجولة لتولّي الرئاسة والقضاء، وللنساء اللاتي تتوافر فيهنَّ الشروط أن يتولَّين كافة المناصب السياسية والقضائية وفي أعلى مستواياتها.[5]

لا يرى شمس الدين فصلاً بين الدين عن الدّولة،[6] ويعتقد بأنّ إسلامية الدولة تتحقق بإسلاميّة القوانين، وإنسجام منظومة القوانين مع الدين، ومن ثمَّ إحقاق أهداف الدين. فطبقاً لرأي شمس الدين حتّى لو كان هناك أحد يؤمن بولاية الفقيه فإنّ ولايته في كلّ الأحوال سارية على مَن سلّموه زمام أمرهم، وإن فكرة وليّ أمر مسلمي العالم، أو وليّ أمر شيعة العالم فاقدة للدليل.[7] وبالطبع يتفق شمس الدين مع أستاذَيه في إنكار ولاية الفقيه أساساً.

لنظرية «ولاية الأمّة على نفسها» لدى شمس الدين تقدّم زمنيّ على نظرية «وكالة مالكي المشاع الشخصيين» لمهدي الحائري اليزدي،[8] وهكذا على نظرية «إشراف الفقيه الأعلم على تشريع القوانين ونفي الولاية التنفيذية للفقيه»[9] للشيخ المنتظري. تأسست كلّ من هذه النظريات بحسب تسلسلها في عام 1991 و1995 وبعد عام 1997. وثمّة تشابهات بين نظريتَي الشيخ شمس الدين والشيخ المنتظري: قبول حقّ القضاء للفقهاء، الإيمان بالحكومة الدينية، لزوم إقامة الأحكام الدينية الثابتة بوصفها قوانين، عدم لزوم شرط الفقاهة لرئيس الحكومة، عدم تعيين شكلاً خاصّاً للحكومة، ولزوم الفصل بين السلطات. وعلى خلاف الشيخ المنتظري لا يؤمن الشيخ شمس الدين بهذين الأمرَين: إشراف الفقيه الأعلَم على التقنين، وشرط الرجولة للوالي والقاضي. أمّا نظرية الحائري اليزدي فلم تقرّ بأيّ معنى من معاني الحكومة الإسلامية، ولم يرد فيها أيّ ذكر للحكم الشرعي بوصفه قانوناً.

أمّا تحليل آراء شمس الدين الخاصّة فإنّه يستدعي مجالاً آخر.

11 كانون الثاني 2018

 

[1]  سبق أن نشرتُ هذه المقالات حول شمس الدين:

التقرير الثالث حول نظرية الدولة الإسلامية المنتخبة في كتاب: نظريات الحكم في الفقه الشيعي (الترجمة العربية: دار الجديد، 2000م، ص 187-189)؛

وكذلك في مقالٍ بعنوان: شمس الدين ومردم سالارى دينى [شمس الدين والديمقراطية الدينية] (مقالة صحفية مفصّلة بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الشيخ شمس الدين، 2001)، وصدرت المقابلة لاحقاً في الكتاب الالكتروني المعنوَن: (بالفارسية: شريعت وسياست: دين در عرصه عمومى (2008، ص269-284)، [الشريعة والسياسة: الدين في المجال العام].

[2]  نُشِر هذا المقال في 11 كانون الثاني 2018. (م)

[3]  نظام الحكم والإدارة في الإسلام، ط2: بیروت، دارالمجد، 1992، ص419. تجدر الإشارة إلى أنّ الطبعة الثالثة لهذا الكتاب: (منشورات المؤسسة الدولیة للدراسات والنشر، بیروت، 1995؛ قم، دار الثقافة، 1412هـ، 674 صفحة) هي نفس الطبعة الثانية بعينها، ولم يلحق بها سوى الفهارس العامة في نهاية الكتاب.

[4]  ذكرتُ الموارد الأربعة الأولى في كتاب نظريات الحكم في الفقه الشيعي: (171-173). وقد وردتْ هذه الموارد في مؤلفات شمس الدين الآتية: نظام الحكم والإدارة في الإسلام‌ (ص416-420)؛ في الاجتماع السياسي الإسلامي:‌ المجتمع السياسي الإسلامي محاولة تأصيل فقهي ‌تاريخي‌ (ص264-267)؛ أهلية المرأة لتولي السلطة‌ (ص126-127)؛ و مجلة النور، لندن، العدد 42، جمادي الثاني 1415هـ، ص 7-9، حديث ‌الشيخ محمّد مهدي شمس ‌الدين في قاعة ديوان الكوفة.

[5]  ألّفَ كتاب أهلية المرأة لتولي السلطة لإثبات هذا الأمر.‌

[6]  بحسب ما ورد في مقدّمة الطبعة الثانية لكتاب نظام الحكم والإدارة في الإسلام فإن شمس الدين كان من نقّاد علي عبد الرازق، وألَّف كتاباً في نقد العلمانية: العلمانیة، تحلیل ونقد للعلمانیة محتوی وتاریخاً في مواجهة المسیحیة والإسلام، وهل تصلح حلا لمشاکل لبنان (1980).

[7]  نظام الحكم والإدارة في الإسلام، (ص416-419)‌

[8]  لخصتُ هذه النظرية في كتاب نظريات الحكم في الفقه الشيعي: (ص175-188).

[9]  يُنظر كتاب: سوگنامه فقیه پاکباز (ص214-215)