نَزع الخرافات، والعِبَر في فايروس كورونا

تشير مجموعة المعلومات والقرائن المتوافرة حول أزمة كورونا في إيران إلى جملةٍ من الحقائق:

أوّلاً: لم تتخذ إيران الاجراءات والسياسات اللازمة لِلوقاية من انتشار هذا المرض المَهول.

ثانياً: أذيع نبأ انتشار الفايروس في البلد في وقتٍ متأخَر جداً. فمنذ 18 شباط/فبراير الماضي حتّى هذه اللحظة لم تنشر الجمهورية الإسلامية الاحصائية الحقيقية لضحايا وباء كورونا، إذ نشرت احصائيات أقل بكثير مِن الأعداد الحقيقية للضحايا والمصابين. تُمثّل الاحصائيات المُعلَنة في أفضل الأحوال والتقديرات خُمس الاحصائيات الحقيقية، ولا يُستَبعَد أبداً أن تكون الأرقام المُعلَنة عُشر الأرقام الحقيقية.

ثالثاً: كلّ القرارات المتخدة حتّى الآن، من قبيل عدم فرض الحَجر الصحّي على مدينة قم الذي أعقبه تفشّي الفايروس في أغلب المدن الإيرانية، وانتقال الفايروس إلى الدول المجاورة وإلى كثير من دول المنطقة، وعدم غلق الأماكن الدينية، وغلق المؤسسات والمراكز التعليمية والثقافية في وقتٍ متأخّر و… كل هذه الأمور تفتقد للخِبرة العِلميّة والتخصصية، وإنها غير منسجمة مع معايير منظمة الصحّة العالميّة.

رابعاً: في الوقت الذي يتحتَّم على وزارة الصحّة والمسؤولين في القطّاع الصحّي أن تكون لهم كلمة الفَصل، نجد السياسات والقرارات العامّة في البلد قد أنيطَت إلى اللجنة الوطنية لمكافحة كورونا، بوصفها الجهة العُليا للتصدّي إلى هذا المرض الفتّاك. وما عدا اسم وزير الصحّة لم يُعلَن حتّى الآن اسم أيّ واحدٍ من أعضاء هذه اللجنة العُليا، ولم يتّضح مَن الذي اتخذ هذه القرارات الخاطئة.

خامساً: على الرغم من الجهود الحثيثة للكوادر الطبيّة والصحيّة (من أطباء وممرضين) في المراكز الصحيّة والمستشفيات فإنّ البلد يواجه نقصاً حادّاً في الأجهزة والمستلزمات الطبيّة لمواجهة هذا الفايروس الخطير.

سادساً: التصريحات المتناقضة للمسؤولين في القطّاع الصحّي وللمسؤولين السياسيين والأمنيين حول فايروس كورونا، بالإضافة إلى سوابق النظام السياسي في عدم مصداقيته مع الشَّعب، كلّ ذلك خلق جوّاً مشحوناً من عدم الثقة بين الشعب والنظام السياسي. وفي المجموع يمكن القول بكلّ تأكيد بأنَّه لو كانت ثمّة قرارات عِلمية ومدروسة واِجراءات وقائية مُتَّخذة، كانت من شأنها أن تجعل حجم الاصابات في البلد أقل بكثير مما هي عليه الآن. ولكن مع شديد الأسف نحن مُقبِلون على أيّامٍ عصيبة وعلى خسائر وضحايا أكثر مما حصل حتّى الآن.

 

أشيرُ بهذا الصدد إلى جملةٍ من الملاحظات:

أوّلاً: على الرغم من الشرور الكثيرة التي جلبها فايروس كورونا، فإنّه قد جاء وسَيَجيء ببعض البركات أيضاً. سأستعملُ مفردة العِـبْـرة والمزيّة بدلاً عن البَرَكة. كانت مدينة قم هي أوّل مكان يُشَخَّصُ فيه هذا الفايروس في إيران، ومِن هناك انتقل إلى سائر المحافظات والمُدن، ومن ثمَّ إلى الدول المجاورة وغير المجاورة. عند حدوث الكوارث الطبيعية في البلد، مثل الزلازل والفيضانات، نسمع كثيراً مِن رجال الدين التقلديين والحكوميين ضَحلي التعليم، بأنَّ ذنوب أصحاب هذه المناطق جلبت هذه الكوارث الطبيعية، ولإثبات مزاعمهم الواهية يستندون لجملةٍ مِن الآيات والروايات. إذا كانت مثل هذه الاستدلالات معتبرة، كان يُفترَض بهم في الوقت الراهن أن يتحدّثوا عن ذنوب أهل قم أيضاً. العِبرة الأولى هي أن هذه الكوارث والبلايا إنّما هي مَعلولة الظواهر الطبيعية، ولا يوجَد أيّ دليلٍ على تدخل ذنوب النّاس في بروز أيّ بليّة طبيعية. وبدلاً عن ذلك تجب الإشارةُ إلى التهاون واللامبالاة وإلى عدم الالتزام بالإرشادات والموازين الصحيّة.

ثانياً: نظراً لكثرة دخول المسافرين إلى المُدُن الدينية، فإنّها، بالمقارنة مع سائر المُدُن، مُعرَّضة للأمراض المُسريّة بنحوٍ أكثر. ثمّة أحاديث وروايات منسوبة للنبيّ ولأئمة أهل البيت حول مَدح المُدُن والشعوب وذمّها، وإن الأعمّ الأغلب من هذه الروايات فاقدة للسَّند المعتبر، وتُعد موضوعة. وبعبارةٍ أخرى إنّها مِن وَضع أهل تلك المُدُن والشعوب أو مِن وضع أعدائها، وصارَت تُنسَب لأولياءِ الدين خلافاً للواقع. تشمل هذه القاعدة الروايات المتوافرة حول مدح مدينة قم، فثمّة روايات تنصّ على أنَّ هذه المدينة بقعة مِن الجنّة، أو أنَّ العذاب لا ينزل على أهلها. كلّ هذه الروايات مشمولة بالقاعدة آنفة الذكر. وبنظرةٍ سريعة في تاريخ هذه المدينة يتضح بأنّ قم لا تختلف عن أيّ مدينة أخرى في مواجهة الكوارث والبلايا الطبيعية والإنسانية، مثل القصف الصاروخي الذي تعرَّضَت له إبّان الحرب الإيرانية العراقية. وفي وقتنا الراهن نجد أن تفشّي فايروس كورونا قد بَدَّد أسس هذه العقيدة الخرافية التي تقول بأنَّ عُشّ آل محمّد (مدينة قم) مُصان مِن البلاء.

ثالثاً: إنَّ أقدس مكان في العالَم بالنسبةِ للمسلمين هو المسجد الحرام في مكّة المكرّمة. وعند قراءة تاريخ مكّة يتضح بأنَّ هذه المدينة أيضاً لم تكن مُصانة من البلايا الطبيعة والإنسانية. أضِف إلى أن إحدى المُسلَّمات الفقهية تنصّ على سقوط فريضة الحَج عند تعرّض حُجاج بيت الله إلى أيّ خطرٍ يُهدد أرواحهم. ومِن المصاديق المُجمَع عليها حول الأخطار التي تهدد سلامة النَّفس هي الأمراض المُسرية في طريق السَّفر، أو في مكّة والمدينة. عند تفشّي مثل هذه الأمراض يجب عقلاً إغلاق أبواب المسجد الحرام لفترةٍ مؤقّتة، وبالتالي يجب ذلك من الناحية الشرعية أيضاً. هذا الحُكم الفقهي يعنى بالزيارة الواجبة، أيْ فريضة الحَجّ، وإن زيارة قبر رسول الله (ص) وأئمة أهل البيت مستحبّة وغير واجبة.

مِن الواضح إن إغلاق أبواب المراقد الدينية عند تفشّي الأمراض المُسرية يصبح أمراً واجباً من الناحية العقلية والشَّرعيّة. وإن زيارة قبور أبناء أئمة أهل البيت مثل أحمد بن موسى (شاهجراغ) [في شيراز] والسيّدة فاطمة المعصومة [في قم] والسيّد عبد العظيم الحسني [في الرَّي] وغيرها من المراقد، تُعد بمثابة زيارة قبور المؤمنين والصالحين، ومشمولة بالاستحباب العام لزيارة أهل القبور، ولا شكّ في أنّ مثل هذا الاستحباب يسقط في زمان تفشّي الأمراض المُسرية؛ وإذا كانت الزيارة سبباً في تفشّي المرض ستصبح فِعلاً مُحرَّماً، لأنَّ إصابة الفرد الزائر بالمرض تأتي من باب الإضرار النفس، ويحرم ذلك، وتتضاعف هذه الحُرمة عند انتقال المرض إلى الآخَر تعمّداً.

المُصِرّون على إبقاء هذه الأماكن [الدينية] مفتوحةً، ليسوا سوى مجموعة من الجَهَلة. ومِن المؤسف جداً أن نجد وزير الصحّة مستسلماً لتنمّرِ هؤلاء الجهلة. إن قلق رجال الدين التقليديين أو الحكوميين ومساعيهم لإبقاء أبواب المراقد الدينية مفتوحة ليس قلقاً وهاجساً دينياً، بل هو هاجس التكسّب! إنَّ المنابر التقليدية والحكومة الدينية في حقيقة الأمر تسترزق من مثل هذه الخرافات، وفي الوقتِ الحاضر إذا أغلقوا باب المراقد الدينية ستُكتَشَف لِلملأ أكاذيب منابرهم؛ إن فايروس كورونا كشف لِلعَيان الخرافة القائلة بأنّ قبر السيّدة فاطمة المعصومة وسائر القبور لأبناء الأئمة هي دار الشفاء.

رابعاً: لا ريب في أنَّ للدعاء تأثيراً على الشفاء من الأمراض، وإن هذه القضيّة من الأمور المُسلَّم بها في كلّ الأديان، وإن الأوساط الطبيّة أيضاً تقرّ بذلك. ولكنَّ هذا الاعتقاد لا يُعني أبداً اهمال استشارة الأطباء عند اتخاذ الطرق الوقائية والعلاجية لمواجهة الأمراض؛ بل العكس، فللدعاءِ وظيفتان: الأولى الوظيفة المُكمّلة، أي لإكمال الاجراءات الطبيّة، والأخرى للحفاظ على الأمل وعدم اليأس مِن الشفاء، حين يتعذَّر على علمِ الطّب تقديم العلاج. إنَّ الدعاء يساهم في تعزيز معنويات المريض لاستكمال شفائه. على أيّ حال، الشفاء بيد الله سبحانه، ولا يوجَد أيَّ ضمان لاستجابة الدعاء، أو أن يُشفى المريض بالضرورة. إنّ الدعاء يحتاج إلى صفاء القَلب ولِلتَطهرِ من الذنوب أكثر من أيّ شيءٍ آخر، ويُمكن رفع الدعاء والمناجاة في أيّ زمانٍ ومكان.

إن العقائد المُغالية في الأوساط الشيعية قد تمسَّكت بقضيّة التوسّل بقبور الأئمة وأبناء الأئمة والتعلّق بأضرحتهم، وأغفلت قضيّة التوكّل على الله. إن التوسّل في كلّ الأحوال يأتي في هامش التوكّل، وليس أكثر من ذلك، وقد أثبتُّ ذلك في مقالٍ مستقل، وأوضحتُ بأنَّ التوسّل بالنَّبيّ أو بأيّ إنسان آخَر (سواء أكان إماماً أو ابن إمام أو قُطباً صوفياً) لا يستند إلى أيّ دليل قرآني معتبَر، وحتّى إن القضيّة فاقدة للمستند الديني المعتبر أيضاً. خرافة هذه القضايا هي من الأمور التي كشفها فايروس كورونا في انتقاله مِن قم إلى الأماكن الأخرى.

خامساً: إن تهاون الجمهورية الإسلامية في إغلاق الأماكن الدينية، وتحديداً مراقد أبناء الأئمّة، والتأخير في إعلان التعطيل المؤقت لصلاة الجمعة في الظروف الخطيرة لتفشّي الوباء في قم وفي سائر المدن لا يمكن تجاوزه. إن مراجع التقليد الذين لَـمْ يساندوا بشفافيةٍ ووضوحٍ تامَّين وجوب تعطيل التجمّعات الدينية عملاً بتوجيهات المسؤولين في النظام الصحي، مسائَلون مِن الناحية الشَّرعيّة. وقبل كلّ هؤلاء كان هذا الأمر مِن مهام قائد الجمهورية الإسلامية، إذ كان عليه غلق هذه الأماكن وحظر هذه التجمعات حتّى إعادة الأمور إلى مسارها الاعتيادي. ولكن ممثلّيه ووكلائه في المؤسسات الدينية (مثل مرقد السيّدة فاطمة المعصومة) والمؤسسات الإعلامية والأمنية والعسكرية المنتمية لِلجنة الوطنية العليا لمكافحة وباء كورونا، كلّ هؤلاء كانوا العائق الأكبر أمام تنفيذ آراء المسؤولين في النظام الصحّي والطبّي، الذين دعَوا إلى تعطيل هذه الأماكن والتجمّعات. إن الإصرار على إبقاء الأماكن الدينية مفتوحةً [خلال هذه الأزمة] ليس مِن التديّن، بل هو عين الجهل والبَلاهة.

سادساً: إن إقامة مراسيم التشييع لجثمان مجموعةٍ من المستشارين! في سوريا في مدينة قم من قِبَل الحَرس الثَّوري توضّح بأنَّ القادة العسكريين في البلاد لم يكترثوا بالأزمةِ الراهنة التي تواجهها المُدُن، ولم يأخذوها على محمل الجِد. بحسب تصريح المسؤولين في وزارة الصّحة يُمنَع إقامة مثل هذه التجمّعات في مثل هذه الظروف. لو كان لقائد البلد ذرّة من الشعور العِلمي والديني لمَنَعَ إقامة مثل هذه المراسيم. وفي موضعٍ آخَر تجد مراسيم العَزاء بأجسادٍ نصف عارية لمجموعةٍ من الرجال اللاطمين على الصدور، وتداول التصوير المَرئي لهذه المراسيم في التواصل الاجتماعي نوعاً من الاستخفاف والاستهزاء بالموازين والنصائح العِلميّة. إن المتديّن السَّفيه الذي لَعِقَ شبّاك ضريح الإمام الرضا أمام الكاميرات من أجل إظهار إيمانه بدور أولياء الدين في الشفاء من الأمراض، قد تسبب بِوَهن الإسلام. بمثل هذه الجَهالة غير المقدّسة يُدار البلد. لقد أفضح فايروس كورونا هؤلاء الجهلة وتلك المنابر التي نشرت ورسَّخَت مثل هذه الحَماقات.

سابعاً: إن العِبَر الكامنة في ظاهرة كورونا لا تقتصر على نزع الخرافات الدينية. فثمّة أمراض مُسرية في تاريخ إيران، مثل الكوليرا والطاعون، لعبت دوراً في التغييرات السياسية. وإن وباء كورونا أيضاً من شأنه أن يؤدّي إلى تغييرات سياسية عميقة. حينما يسدّ النظام السياسي كلّ القنوات القانونية لإصلاح الأمور، مثل الانتخابات الحُرّة والنزيهة، ويمنع الصحافة والإعلام المستقل والحُر، والأحزاب السياسية المستقلة، والتجمّعات السّلميّة للمواطنين، فإنَّ ملك الموت عزرائيل وفايروس كورونا يقدران على فعل كثيرٍ من الأمور! لقد تعطّل البلد حتّى أوائل نيسان الراهن، وإن الجمهورية الإسلامية بِعدم درايتها وعدم تدبيرها، وبتمسّكها بالخرافات، وبإدارتها البلد على طريقة المواكب الدينية، وبتقديمها غير الكفوئين في الحُكم، وبعدم احترامها للموازين العِلمية، قد تسببت في انتشار فايروس كورونا مِن قم إلى كلّ البلد، مما أدّى إلى سجن النّاس داخل منازلهم. لقد تحوّلَت إيران إلى سجنٍ كبير، ولئِن كان النّاس لم يأمَنوا على أرواحهم فقد تحوّل عيد النوروز في هذا العام إلى عزاء.

إن هذه الظروف الحرجة التي تأتي نتاجاً لسوء إدارة الهيئة الحاكمة في نظام الجمهورية الإسلامية ولجهالتها المفرطة، قد بزرت في أزمة وباء كورونا الراهنة، وضاعفت السخط الشعبي على النظام الحاكِم. إن السخط الشعبي على عجز النظام عن معالجة المشاكل وعدم ثقة الجماهير بالسلطة طوال هذه العقود الأربعة لم يبلغ هذا الحَدّ، فقد بلغ المؤشّر المَعني برأي الشعب حول مدى إمكانية إصلاح الجمهورية الإسلامية أعلى مستوياته. ولا يُستَبعَد اضمحلال امبراطورية الخداع والتزوير، وانهيار ولاية الجائر. يُروى أنَّ بعوضةً قد أودَت بحياة النمرود؛ إن قدرات فايروس كورونا ليست أقلَّ من البعوض!

2 آذار 2020