فقيه إيراني معارض لـ ” حفريات “: سيّد قطب الكاتبُ المفضَّل لخامنئي

حفريات” صحيفة إلكترونية تصدر عن مركز دال للأبحاث والإنتاج الإعلامي / القاهرة – مصر

أجرى الحوار: محمود أمين – صحفي عراقي

04/01/2022

يُعدّ العَلّامة الدكتور محسن كديور من مشاهير الفكر الديني الحديث في إيران، المناهض لتيار ولاية الفقيه الحاكم في بلاده، إذ يعدّ العلامة الإيراني من أبرز المفكّرين الإسلاميين الشيعة الذين أثبتوا بطلان ولاية الفقيه العامة، على المستوى الفقهي والفكري، ضمن المساحة الشيعية، بيد أنّهُ من أبرز تلاميذ منظّر الثورة الإيرانية عام 1979، آية الله الراحل حسين علي منتظري.

الدكتور كديور، اليوم، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة ديوك الأمريكية، بعد أن اضطّرُ للخروجِ من بلادهِ إثر آرائهِ المعارضة للنظام الحاكم، إذ تعرّضَ قبلها للملاحقةِ والسجنِ والإقصاء.

“حفريات” حاورت “كديور” بوصفهِ باحثاً وفقيهاً ومفكراً ومعارضاً سياسياً، حيث أجاب عن مختلف الأسئلة التي دارت في فلك المعرفة الإيرانية والإسلامية العامة، وتطرق إلى افتتان مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي بسيد قطب.

هنا نصّ الحوار:

كتبتم كثيراً عن تفنيد مبدأ ولاية الفقيه العامة؛ هل هذه القناعة كانت متأصّلة منذ دراستكم الحوزوية الأولى، أم جاءت متأخرة؟

منذ بدايات عام 1988 تكوَّنت لديّ نظرة نقديّة لِلسياسات العامة لدى السيّد الخميني، ومنذ بدايات عام 1989 شككتُ في نظريةِ ولاية الفقيه بوصفها نظرية سياسية، وخلال عام 1989، أي في بدايات النصف الثاني من فترة دراستي في حوزة قم العِلميّة، وجدتُ هذه النظرية بلا أساس، وفي الاستفتاء العام لتعديل الدستور، الذي جرى في 28 تموز (يوليو) 1989، أدليتُ بصوتِ “لا”، وذلك لأنَّ نصَّ الدستور المعدَّل قد تضمَّن ولاية الفقيه المطلقة. ذكرتُ كلّ هذه الأمور في مقدّمة كتابي الجديد الذي صَدَرَ (باللغة الفارسية) بهذا العنوان: “حقبة التعاضد والتعاون العلاقة بين الخميني والمنتظري لغاية أيلول 1986، سلسلة استجواب خبراء وقادة الجمهوريّة الإسلاميّة (1982-1991)” الجزء الثاني، إسن ألمانيا: منشورات اندیشه های نو، 2021، ص 21-24.

صدرت باكورة مقالاتي النقدية حول هذا الموضوع في خريف 1994، واستمرَّ نشر هذه المقالات النقدية حتّى صيف 1997، عند انتقالي من مدينة قم إلى طهران. وقد صدر كتابي الأوَّل، الذي دوّنته خلال فترة إقامتي ودراستي في حوزة قم العلميّة، في خريف 1997، بطهران، بهذا العنوان: “نظريات الحكم في الفقه الشيعي“، ولحسن الحظ تُرجِمَ لِلعربية في عام 2000 وصدر في بيروت.

درستَ على يدِ أشهرِ منظرٍ لولايةِ الفقيه في القرن العشرين، وهو الشيخ حسين علي منتظري (رحمهُ الله)، كما أنّهُ كان نائب المرشد الإيراني السابق الخميني، قبل أن يتم عزله؛ هل تراجع شيخكم منتظري في أواخر حياتهِ عن الإيمانِ بولاية الفقيه العامة الحاكمة في إيران؟

كان لأستاذي منتظري تطوّرات فكريّة حول ولاية الفقيه السياسية؛ لقد كان له، لغاية ربيع 1985، رأياً كرأي أستاذه السيّد الخميني المتمثّل بنظرية “ولاية الفقيه العامّة التنصيبية”. ومنذ التاريخ المذكور الذي يُعدّ بدايات فترة تدريسهِ لبحوث “خارج الفقه” بعنوان (ولاية الفقيه) بدأ يدافع عن نظرية “ولاية الفقيه الانتخابية المقيّدة”؛ حيث يكون الفقيه الحاكم مَنصباً منتخَباً، وسلطته وإدارته مقيّدة بالدستور بوصفه الشرط الأوَّل ضمن عقد البيعة، ومنذ عام 1997 ابتعد عن ولاية الفقيه المتمركزة، متبنياً مبدأ الفصل بين السلطات ومفرداته الملازمة له، وفي نهاية المطاف أعلن أنّ القيادة السياسية هي حقّ رئيس الجمهورية المنتخَب من الشعب، واكتفى مِن “ولاية الفقيه السياسية” بـ “إشراف الفقيه الأعلم على التشريع”، والذي يعني رفض الولاية التنفيذية للفقيه.

لقد تباحثتُ معه حول مسألة ولاية الفقيه في أكثر من مرّة، منها في حدود عام 2005، حينما كنت أعمل على تدوين كتاب “الرسائل السياسية للآخوند الخراساني” (مجموعة الآراء والنصوص السياسية في كتابات صاحب الكفاية- 2006). لقد كان الشَّيخ محمّد كاظم الخراساني المعروف بالآخوند الخراساني الزعيم الروحي للحركة الدستورية، عام 1906، وإنَّ نظريته السياسية تنصّ على “الرفض المطلق لولاية الفقيه السياسية” إذ تبنّى حقّ الشَّعب في إدارة الشأن العام، وحين كنتُ أعمل باحثاً في كلية الحقوق بجامعة هارفارد كتبتُ مقالاً في نقدِ رأيهِ ورأي أستاذهِ السيد الخميني، بعنوان “ولاية الفقيه وحكم الشَّعب” (المقال المقروء في المؤتمر السنوي السادس والثلاثين لمنتدى دراسات الشَّرق الأوسط، في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003، المنشور في كتاب الشريعة والسياسة: الدين في المجال العام، (ص 285-304). وبتاريخ 17 كانون الأول (ديسمبر) 2003، كتبتُ إليه رسالةً طلبتُ فيها أن “يصدر رأياً في عدم اعتبار نظرية ولاية الفقيه“.

أوردتُ هذه الرسالة في كتابي المعنوَن (بالفارسية) “در محضر فقيه آزاده” (في محضر الفقيه الحُر)، ص 122-123.

وقد ذكر سماحتُه رأيَه النهائي في إنكار ولاية الفقيه التنفيذية، قبل سنة على رحيله، وذلك في كتابه “نظام الحُكم الديني وحقوق الإنسان“. وأشار إلى هذا الأمر بكلّ شجاعة في كتاب “نقد الذات: العبرة والوصيّة“، مقدّماً اعتذاره إلى النّاس.

لماذا توجَد محكمة خاصة برجال الدين في إيران؟ وبأيِّ تهمةٍ تمّ عرضكم عليها؟ وكم قضيتَ في السجن؟

المحكمة الخاصة برجال الدين على وفق دستور الجمهورية الإسلامية في إيران غير قانونية، إذ إنّ النّاس كلّهم متساوون أمام القانون، والمحكمة الخاصّة الوحيدة التي تُعدّ قانونية هي المحكمة التي تعنى بالجرائم العسكرية والتي تختص بعناصر القوّات العسكرية والأمنية. أقيمَت المحكمة الخاصة برجال الدين في بدايات استقرار الجمهورية الإسلامية في قم لفترةٍ وجيزة، لكن عُطّلَت بسبب احتجاج واعتراض الأستاذ منتظري، إلى أن أقيمت مرّة أخرى عام 1987 بأمرٍ من السيّد الخميني، وذلك لمحاكمة رجال الدين السياسيين، وقد كان سبب تأسيسها في تلك الحقبة هو أنّ أصحاب المناصب العليا في السلطة القضائية كانوا يرفضون الخضوع للإرادة السياسية العليا، في حين كانت هذه المحكمة تعمل بإشراف مباشر من مكتب المرشد ومن دون مراعاة الإجراءات الجزائية، وكانت تصدر الأحكام التي ترتأيها الإرادة السياسية.

وفي فترة ولاية المرشد الثاني للجمهورية الإسلامية استمرَّت هذه الآلية بنحوٍ أشد، وأصبحت وسيلةً لقمع مراجع الدين والضغط على العلماء المحتجّين والرافضين لِلسياسات العامة التي تعتمدها الجمهورية الإسلامية أو شخص المرشد، إضافة إلى أنّ تأسيس المحكمة الخاصة برجال الدين كان قراراً غير قانوني، فقد كان الأعمّ الأغلب مِن محاكمات الاتهامات السياسية والمحاكمات المرتبطة بجرائم النشر والصحافة، التي يُفترَض بحسب نصّ الدستور أن تكون بحضور هيئة المحلفین وفي جلسات علنيّة،  كانت تجري من دون حضور هيئة المحلفين وفي جلسات غير علنية. وبالنسبة لتوكيل محامي الدفاع أيضاً يواجه المتهمون في هذه المحكمة قيوداً غير قانونية؛ إذ يجب على محامي الدفاع أن يكون رجل دين، وأن يكون ضمن قائمة المحامين الذين يؤيدهم النظام!

بعد جلستَين من الاستجواب المفصَّل، اعتُقِلتُ في 27 شباط (فبراير) 1999، بقرارٍ من هذه المحكمة غير القانونية، وعُقِدَت جلسة المحكمة بعد مرور شهر ونصف الشهر على اعتقالي، بتاريخ 14 نيسان (أبريل) 1999! وحُكِمَ عليَّ بالسجن لمدة سنة ونصف السنة. لقد كانت أدلة إثبات الإدانة كالآتي: إلقاء محاضرة في مسجد حسين آباد في أصفهان حول “الحُرمة الشَّرعية للاغتيال” خلال أحداث الاغتيالات المتسلسلة، وكانت المحاضرة بدعوةٍ من إمام جمعة أصفهان الراحل، وفي الليلة 23 من شهر رمضان المبارك (12 كانون الثاني (يناير) 1999). والدليل الثاني كان حواراً صحفياً بعنوان “وقفة عند قائمة أعمال الجمهورية الإسلامية على مدى عشرين عاماً“؛ إذ أجرته معي جريدة خُرداد بمناسبة الذكرى العشرين على انتصار الثورة، وصدر الحوار في هذه الجريدة في أعدادها من (6-9 آذار (مارس) 1999).

لقد ورد في حكم محكمة رجال الدين أنَّ كديور يوجّه مسؤولية الاغتيالات المتسلسلة إلى النظام، وعبَّر عن الجمهورية الإسلامية في حوارهِ الصحفي بأنّها إعادة إنتاج لطبيعة النظام الملكي السابق. وبناءً على هذا يُحكَم عليه بالسجن لمدّة عام واحد “لنشره الأكاذيب لتشويش الرأي العام” (في محاضرته)، ويُحكَم عليه بالسجن لستة أشهر أخرى “للترويج ضدّ نظام الجمهورية الإسلامية المقدَّس” (في حواره الصحفي)، وبعد قضائي العقوبة المقرَّرة كاملةً (18 شهراً) أطلِق سراحي من السجن.

بعد تجربة السجن والخروج إلى مناخ الحرية؛ كيف وجدتم حقوق الإنسان في بلادكم المحكومة من قبل رجال الدين الأصوليين؟

لم تختلف الصورة عندي كثيراً؛ قبل فترة السجن كنتُ قد كتبتُ حول انتهاك حقوق المنتقدين القانونيين والمعارضين السلميين للنظام، وبعد خروجي من السجن سافرتُ إلى دولٍ عدّة، وذات مرّة حين كنتُ متوجهاً إلى جامعة فيرجينيا لقضاء للتدريس لمدّة سنة واحدة، أثناء سفري إلى دبي (للحصول على تأشيرة الدخول للولايات المتحدة) حُجِزَ جواز سفري في المطار بطهران من دونِ علمٍ مسبَق، وقيل لي إنّني ممنوع من السفر، وخضعت للاستجواب لمرّة ثانية من تلك المحكمة غير القانونية، وكانت الاتهامات محاضراتي ولقاءاتي الصحفية بعد فترة السجن. قال لي رئيس محكمة رجال الدين: إمّا أن تبقى وتسكت، أو إذا غادرتَ البلد فلا تستطيع العودة. قلتُ له: هذا إجراء غير قانوني. ردَّ عليَّ: سترى. وقد أتيتُ إلى الولايات المتحدة في صيف 2008، ومنذ ذلك الحين لم أرجع. آرائي حول عدم سيادة القانون وانتهاك الحقوق وحريّات النّاس القانونية هي نفسها، ولم تتغير خلال هذه الفترة سوى أنّها قد تعمَّقَت.

يقال عن الشعب الإيراني؛ إنّهُ شعب حَضاري متمدّن ونسبة كبيرة منهُ لا تنتمي لثقافة النظام السياسي، ما صحّة ذلك؟

نعم، صحيح. الشَّعب الإيراني، بالمقارنة مع سائر الدول في الشَّرق الأوسط، يُعدّ من أول الشعوب التي احتكمت إلى الدستور، وعلى مدى ثمانين عاماً ثار لمرَّتَين من أجل دولة القانون والعدالة والحرية، وعلى وفق بيانات واحصائيات الأمم المتحدة يُقارَن من حيث مستوى التنمية بتونس. تُعَدّ الثورة الإيرانية عام 1979 واحدة من أهم الأحداث العالمية في القرن العشرين، وهي ثورة شعبية كان يُراد منها أن تأتي بالاستقلال والحريّة والعدالة والإسلام الرحماني للشَّعب. لكن، لأسباب داخلية وخارجية مختلفة، لم ينسجم نظام الجمهورية الإسلامية مع مطالب الشَّعب، إذ انحرف تدريجاً عن أهدافه الأولى.

خلال حقبة قيادة السيّد الخميني كان النظام يتمتَّع بدعم الأغلبية الساحقة من الإيرانيين، لكن، بحسب ما تشهده مواسم الانتخابات خلال فترة ولاية السيّد خامنئي قد تضاءل هذا الدعم إلى حدّ كبير، ولا شكَّ في أنَّ ما لا يقل عن خمسين إلى ستين بالمئة من الشعب الإيراني لا يدعم النظام ولا يؤيّده. وهذه النسبة من عدم الدعم والرفض تبلغ في العاصمة وسائر المدن الكبيرة بين الطبقة المتعلّمة والمثقفة نحو ثلثَي إلى ثلاثة أرباع الشعب الإيراني. لإثبات ذلك تكفي مراجعة نسبة مشاركة النّاس في انتخابات رئاسة الجمهورية، في حزيران (يونيو) 2021، وقبلها انتخابات مجلس الشورى الإسلامي، في شباط (فبراير) 2020، وكذلك نسبة المقاطعين للانتخابات ونسبة الأصوات الباطلة، لا شكَّ في أنّ الجمهورية الإسلامية في الوقت الراهن تمثّل حكومة الأقلية على الأغلبية الرافضة. وأنا واثق في أنّه إذا أُجريَ استفتاء حُرّ في إيران سيصوّت الأغلبية مِن الشعب الإيراني ضدّ الجمهورية الإسلامية.

يمتازُ المرشد الإيراني علي خامنئي بثقافةٍ واسعة، فضلاً عن كونهِ مترجماً عربياً، ويجيدُ لغات ثلاثاً؛ برأيكم لماذا يمارسُ أداءً سلطوياً منافياً لثقافته؟ هل هو سقوط في العمى الأيديولوجي؟

مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي خطيبٌ متمكّن، وقبل تولّيه قيادة النظام، كان بالمقارنة مع سائر رجال الدين يُعَدّ من المثقفين المستنيرين، إذ كان صديقاً لعلي شريعتي، وحتّى كان يدافع عنه، وقد طالعَ الروايات الأدبية والشعر بنسبة أكثر من الحدّ المتعارَف عليه لدى طلّاب الحوزات العلميّة، وتلاوته للقرآن الكريم جيّدة جداً. يعودُ في أصله إلى أتراك إيران (مدينة خامنه في محافظة أذربيجان الإيرانية)، ويجيد اللغة العربية كسائر طلبة الحوزات العلميّة. وقد ترجم هذه الكتب الخمسة من اللغة العربية إلى الفارسية: “المستقبل لهذا الدین” لسید قطب (عنوان الترجمة الفارسية: در قلمرو إسلام في سنة 1967)، و”کفاح المسلمین في تحریر الهند” تأليف عبد المنعم النمر أحد علماء الأزهر (عنوان الترجمة الفارسية: مسلمانان در نهضت آزادی هندوستان في سنة 1967)، “الإسلام ومشکلات الحضارة” لسید قطب (عنوان الترجمة الفارسية: “ادعا نامه أي علیه تمدن غرب و دورنمایی از رسالت اسلام”، بالتعاون مع أخيه السید هادي خامنئي  في سنة 1971)، وكتاب “صلح الحسن علیه السَّلام”، تأليف الشیخ راضي آل یاسین (عنوان الترجمة الفارسية: “صلح امام حسن پرشکوه‌ ترین نرمش قهرمانانه تاریخ” في سنة 1971)، والمجلّد الأوَّل من تفسير في ظلال القرآن لسيّد قطب (في سنة 1983).

إنَّ ثلاثة عناوين من هذه الكتب الخمسة من تأليف سيّد قطب، ويمكن القول إن سيّد قطب هو الكاتب المفضَّل لدى خامنئي، وثمّة قرابة فكرية بينهما. لا يؤمن خامنئي نظرياً بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وعلى الصعيد العملي بعد تولّيه منصب المرشد، وكونه لا يمتلك العلوم الدينية بمستوى السيّد الخميني وبالحدّ الذي أقرّهُ دستور الجمهورية الإسلامية، ولعدم تميّزهِ بالشخصية الكاريزمية، وعدم حصوله على دعم الأغلبية، مالَ إلى التيار المحافظ، لا سيّما قوّات الحرس الثوري، وفي الوقت الراهن أيضاً يقفُ المرشد مع هذا التيّار الذي يُعدّ في الأقلية، ويحكم بنحوٍ فردي وسلطوي الأغلبيةَ الرافضة والمتبرمة، على أيّ حال، يدير خامنئي بلدَهُ بطريقة استبدادية كزعماء أغلب الدول في الشَّرق الأوسط.

تقيمُ الآن في أمريكا، وأستاذ في إحدى جامعاتها، ما هو تقييمكم لها؟

لِلغربِ، وعلى نحوٍ خاص الولايات المتحدة، وَجهان: العلم والتكنولوجيا المتقدّمة من جانب، والرأسمالية والإمبريالية والاستعمار الجديد من جانبٍ آخر، هذان الوجهان قابلان للتفكيك. إنَّ التقدّم المذهل الذي يشهدهُ هذا البلد مرهون بالوجه الأوَّل، وبإقرار الحريات على المستوى النظري والعملي وفي سلطةِ القانون. أمّا في الوجه الثاني هنالك فجوة عميقة جدّاً بين الفقير والغني في هذا البلد. إنّ الأقليات العرقية، كالسود واللاتينيين والمسلمين، يعانون من التمييز العنصري. رغم كلّ ذلك نجدُ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي يتمتَّع بها المواطنون الأمريكان بالمقارنة مع الأعم الأغلب من الدول الآسيوية والأفريقية في مستوى أعلى بكثير. لكن، في طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة مع سائر الدول، لاسيما الدول الآسيوية والأفريقية، لا نجد للديمقراطية وحقوق الإنسان أيّ دور يُذكَر، وفي الغالب توظَّف هذه المفاهيم كأدوات سياسية لتحقيق المصالح الاقتصادية، لإثبات ذلك تكفي مراجعة حلفاء أمريكا في الشَّرق الأوسط، سنجد بين حلفائها أدنى الدول في تصنيف الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ما هي قراءتكم لإيران ما بعد المرشد علي الخامنئي؟ هل ستخضع كلياً لسلطةِ الحرس الثوري، أم سيحدث تغيير ما؟

من الصعب التنبؤ بذلك. في الوقت الراهن ثمّة تياران قويّان جداً في إيران: التيار الأوَّل مكتب خامنئي، والآخر الحرس الثوري. لا يُعلَم حالياً أيّهما أقوى وأكثر نفوذاً من الآخر. خامنئي بدوره يعمل بصمت على تنفيذ أجندته واختيار من يخلفه في منصب المرشد. يُقال إنّ ابنه مجتبى يُمنّي نفسه لهذا الأمر، وله بعض الخطط والأجندة. يبدو أنّ دور الحرس الثوري في فترة ما بعد خامنئي سيبرز أكثر، وقادة الحرس سيتولون عملياً إدارة البلد. بالطبع سيضعون رجل دينٍ في مكان خامنئي ليكون المرشد ولو بنحو شكلي، ومن أجل استمرار نظام ولاية الفقيه المطلقة. لكن من الصعب أن يكون المرشد الجديد قادراً على فعل شيء من دون موافقة قادة الحرس الثوري. العامل الثالث الذي أراه أهمّ بكثير من المؤسستَين السابقتَين هو عامل الإرادة لدى أغلبية الشعب الإيراني، فليس من المستَبعَد أن يقوم الشعب بإفساد خطط هذين التيارَين ويهمّشهما، لا يجب إغفال سخط الأغلبية في الشعب الإيراني وتبرّمه المتنامي.

بوصفكم أحد أهم المفكرين المتخصصين في الدراسات الشيعية؛ كيف ترون مستقبل المجتمع الشيعي في إيران والعالَم العربي؟  وكيف يمكن لِلمواطن الشيعي أن يواجه الخطابات الطائفية في بلده (سواء أكان الخطاب الطائفي نابعاً من مذهبه أم من المذاهب الأخرى)؛ وكيف يمكن أن يكون مواطناً صالحاً من دون أن يفقد هويته الدينية؟

المسلمون الشيعة متنوعون كالمسلمين السنّة، وفي كلا المذهبَين الكبيرَين الإسلاميَين نجد التيّار التقليدي والمحافظ يمثّل الأكثرية. وثمّة تيّار أصولي في كلا المذهبَين، لكنّه يمثّل الأقلية، وثمّة تيار ثالث نجدهُ بين الفئات المتعلّمة والجيل الشبابي، وإنَّه -لدى كلا المذهبَين- يمثّل الأغلبية. وهنالك فئة أخيرة في كلا المذهبين، على الرغم من أنّها في الأقلية، لكنّها فئة تتنامى بسرعة. المستنيرون أو الإصلاحيون يمثلون هذه الفئة الأخيرة. في التيارَين الأول والثاني (سواء بين السنّة أو الشيعة) ثمّة جماعات لم تشم مطلقاً رائحة التسامح والاعتدال الديني، إذ يعملون على فرض قراءتهم للإسلام على الآخرين، ويقسّمون العالَم إلى الصديق والعدو، ويكفّرون كلَّ من لا يؤمن بدينهم ومذهبهم وقراءتهم للدين.

ولكننا نشهد بين المسلمين (سواء أكانوا من السنّة أو الشيعة) تياراً بَصيراً يؤمن بالتسامح، لقد بدأ هذا التيّار على يد السيد جمال الدين الأسد آبادي الشيعي (المعروف في خارج إيران بالأفغاني) والشَّيخ محمد عبده السنّي. إنَّ أنموذج التعاون بين السيّد جمال والشَّيخ عبده يمثل صورةً ناصعة من التعايش السِلمي بين السنة والشيعة. هذا الاتجاه الإسلامي العريق تعزّز بجهود فقيهَين كبيرَين من الفريقَين، أعني بهما الشَّيخ محمود شلتوت (1893-1963) المفتي الكبير في الأزهر، والسيّد حسين البروجردي (1875-1961) المرجع الشيعي الأعلى. وفي ضوء الفتوى التاريخية التي أصدرها الشيخ شلتوت أُقِرَّ بالمذهب الشيعي الجعفري رسمياً مذهباً خامساً إلى جانب المذهب الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، وقد كانت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية نتيجة التعاون بين هذين العالـمَين البصيرَين.

وفي الجيل اللاحق كان السيّد موسى الصَّدر (1928- غُيّبَ في 31 آب (أغسطس) 1978 في ليبيا) مؤسس ورئيس المجلس الشيعي الأعلى في لبنان، وأستاذي المرحوم الشَّيخ حسين علي المنتظري النجف آبادي (1922-2009)، من الدّاعين إلى التقريب بين الشيعة والسنّة والحوار بين المذاهب. إنّ المسلمين من أهل السنّة والشيعة، إلى جانب احتفاظهم بهويتهم وعقائدهم المذهبية، يقرّون بوجود سائر المذاهب الإسلامية ويحترمونهم، ويحاورون أتباعهم. لحسن الحظ هذا التيّار في طور النمو بين الشيعة والسنّة داخل إيران؛ فنحن ليس أمامنا أيّ طريق سوى الأخوّة الإسلامية التي تعلمناها من القرآن الكريم وسنّة النَّبي عليه السلام.

تتبنّون في أفكاركم مفهوم (الإسلام الرحماني) ويبدو أنهُ في مواجهة (الإسلام السياسي)؛ ما ملامح هذه القراءة للإسلام؟ وما السبيل لتنميتها للتقابل مع الإسلام السياسي والجهادي؟

وظفتُ تعبير “الإسلام الرَّحماني” في كتاباتي منذ عام 2001. وفي تموز (يوليو) 2010، نشرت مقالاً في شرحه وتبيينه، يوظّفُ هذا المقال الإسلام الرحماني، للتمييز عن “الإسلام الفاشي، والإسلام الطالباني، والإسلام المتحجّر”؛ الذي يقدم قراءات عن الإسلام يُعتمَد فيها العنف والإكراه والقوّة من أجل التبليغ ونشر تعاليم الإسلام وأحكامه. أما “الإسلام السياسي”؛ فإنّها مفردة غامضة، توظَّف في اللغة الانجليزية غالباً لوصف الحركات الإسلامية بطابع سلبي، ويلازم تعبير (الإسلام السياسي) فَهمٌ يفيد بأنّ الإسلام محصور بالأحكام الشخصية والمجال الخاص، ويجب إقصاء الإسلام عن المجال العام. الجهاد أيضاً في الثقافة الإسلامية مفردة رفيعة وشريفة، وتُعدّ مفهوماً عريضاً للجهاد الأكبر وتهذيب النفس، ومن ثمَّ تشمل الجهاد الأصغر والحروب الدفاعية. رغم كلّ ذلك نجد في العقود الأخيرة أنّ الجهاد في الغالب استعمُل بمعنى الحرب الهجومي والترهيب. إنّ عمليات الجماعات الإرهابية كالقاعدة وداعش وبوكو حرام فاقدة للسمات الدقيقة المرتبطة بمفهوم الجهاد في الثقافة الإسلامية. إنَّ الإسلام الرحماني لا ينكر التعاليم الاجتماعية للإسلام، ولا ينكر جواز الدفاع المشروع في مواجهة المتطاولين على الحقوق الفردية أو على بلاد المسلمين.

ومثلما فضَّل اللهُ تعالى مِن بين أسمائه الحسنى صفتَي الرَّحمن والرَّحيم، ومثلما عرَّف نبيَّه بأنّه رحمة لِلعالَمين، فإنَّ الإسلام الرَّحماني يدعو إلى العودة إلى كتاب الله وسنّة نبيّه وإبراز هذه الصفة بوصفها المحور الرئيس في إسلام عصرنا الراهن. إنَّ النقطة الجوهرية في الإسلام الرحماني هي الاستناد إلى الحريّة واختيار الإنسان في قبول الإسلام والعمل بموازينه وأحكامه. إنَّ القراءات الأخرى عن الإسلام التي تسعى إلى إقامة دولة إسلامية من أجل الحصول على السلطة السياسية أو تلك التي تفرض عقوبة قانونية على نشر الإسلام ليست رحمانية. لا يمكن تحصيل الحبّ والإيمان بالله تعالى بالقوّة والإجبار، فالنَّبيّ تملَّكَ الأفئدة والضمائر وتربَّع في قلوب النّاس من خلال رحمته.

المحاور الرئيسة في الإسلام الرَّحماني كالآتي: رضا لله، العدالة، العقلانية، الرَّحمة، الأخلاق، الكرامة وحقوق الإنسان، الحرية والاختيار، العلم والتكنوقراطية، حكم الشعب وفصل المؤسسة الدينية عن الدولة. وإنَّ كلاً من السلطوية والحكم الفردي والديكتاتورية والاستبداد في تعارض تام مع الإسلام الرحماني. وبما أنَّ ممارسات مِن قبيل استعمال القوّة والعنف والإجبار باسم الإسلام من أجل إقامة الأحكام الإسلامية، وإلحاق النّاس بالإسلام أو إبقائهم فيه (التصدي لخروج الأفراد من الإسلام من خلال وضع عقوبات مشددة على المرتد وسابّ النَّبي) هي أمور مُنتفية، وبما أنَّ القول بالدولة الإسلامية وجَعْل السياسة فرعاً للإسلامِ والفقاهة يترتبُ عليه تجويز العنف والإجبار باسم الإسلام؛ لذا لا يمكن تحقيق الإسلام الرَّحماني إلّا من خلال الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة. إنَّ المسلمين في ضَوء الإسلام الرَّحماني يمارسون السياسةَ في مجتمعٍ مدني، ويقرّون بأنَّ السياسةَ أمرٌ عرفيّ وليس دينياً. بالطبع هنالك الأخلاق السياسية التي تُعَد فرعاً من الأخلاق الإسلامية، وإنَّ المسلمين في ممارستهم السياسة العُرفية يبـرّزون موازينهم الدينية في الأخلاق السياسية.