تأملاتٌ تتخطّى السياسات اليومية حول المصالح الوطنية
المطالبة بالحقوق بالقدر الممکن في مواجهة التعسّف والقوّة الجامحة
كُتِبَ هذا الموجز في الأسبوع الماضي وذلك في معرض الجواب عن بعض الأسئلة وبنحو مقتضب جداً، ويُنشر الآن بعد إعادة التحرير والإضافات. تتسارع وتيرة الأحداث اليومية إلى درجةٍ تجعلني لا أعرف ما الأحداث الجديدة التي قد تقع في وقت قراءة هذا النص. لقد حاولت أن أتجاوز السياسة اليومية وأتعمّق في النقاط التي يرتهن بها مصير إيران اليوم وفي المستقبل، وتدعونا جمعياً إلى التفكّر والتأمل. أرحب بانتقادات القرّاء وأفيد من آرائهم.
نمرّ بأيام صعبة لِلغاية. لقد رأينا بوضوح وجه البشر الأكثر شراً وذلك في جرائم إسرائيل وفي الإبادة الجماعية والمذبحة بحق العزّل في غزة ومؤخراً في لبنان، وذرفنا الدموع على هذه المشاهد. إنَّ اغتيال إسماعيل هنية في طهران واغتيال السيد حسن نصر الله والعديد من الأشخاص الآخرين في بيروت على يد إسرائيل أدّى إلى توسيع سلسلة الاغتيالات التي قامت بها الحكومة الإسرائيلية. يشكّل الصهاينة -لأكثر من سبعة عقود- أكبر عائق أمام السّلام والأمن والحياة الطبيعية لشعوب المنطقة من خلال اغتيال النخب الفلسطينية واللبنانية المقاتلة والقتل الجماعي للأطفال والنساء والشيوخ والرجال العزّل الفلسطينيين واللبنانيين.
تأسست دولة إسرائيل على يد بريطانيا العظمى المستعمِرة العجوز، وبدعمٍ غير مشروط من الولايات المتحدة الأمريكية بالأسلحة والاستخبارات والاقتصاد، لتصبح أكبر جيش في الشرق الأوسط. لقد انتهكت الحكومة الإسرائيلية قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وأحكام محكمة العدل الدولية أكثر من أي دولة أخرى. ولا شكّ في أن الموساد الإرهابية -وكالة المخابرات الإسرائيلية- هي أكثر وكالة استخبارات ممارسةً للإرهاب في العالم. عندما يتحدّث رئيس وزراء إسرائيل عن السلام أو يتحدث رئيس الولايات المتحدة عن حقوق الإنسان، فليس من الواضح عن أيّ سلام وحقوق إنسان يتحدثون؟!
لم يبدأ تاريخ الصراعات الفلسطينية من 7 أكتوبر 2023. إذا كان المقاتلون الفلسطينيون يحملون السلاح لِطرد المعتدين من أرضهم ولِنيل حقّهم في تقرير المصير، فهذا «دفاع مشروع» وعلى وفق معايير القانون الدولي. إنَّ المقاتل الذي يناضل من أجل تحرير واستقلال أرضه ليس إرهابياً، بل هو «مقاتل من أجل الحرية». وبالطبع إنّهم ملزَمون أيضاً -قانونياً وأخلاقياً- بعدم إيذاء الأشخاص العزّل، وإذا كانوا غير ملتزمين بذلك فيمكن لومهم ومؤاخذتهم. لكن قتل أكثر من خمسين ألف بريء في غزّة في أقلّ من عام بحجّة تصفية مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي، وقتل أكثر من ألفي بريء في أقلّ من أسبوع في لبنان بحجة تصفية مقاتلي حزب الله، فإنّه من دون أدنى شكّ يُعدّ «إبادة جماعية» و«مذبحة» نفّذتها الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل وبدعم غير مشروط من حكومة الولايات المتحدة.
إذا كان لدى أيّ شخص أدنى شك في الطبيعة «العدوانية» وفي مبدأ «الاحتلال والفصل العنصري والعنصرية والاستعمار والإرهاب» الذي تمتاز به دولة إسرائيل، فإنّي أدعوه إلى قراءة أحد الكتب الوثائقية في هذا المجال: «رشيد الخالدي، حرب المئة عام على فلسطين ـ قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917- 2017».
البروفيسور رشيد الخالدي هو أستاذ فلسطيني أمريكي، حاصل على كرسي إدوارد سعيد في جامعة كولومبيا، وعُدّ كتابه هذا الأكثر مبيعاً لهذا العام من قبل صحيفة نيويورك تايمز.
Rashid Khalidi, The Hundred Years’ war on Palestine: a history of Settler Colonialism and Resistance, 1917-2017, New York: Picador, 2021 (New York Times Bestseller)
تَرجم هذا الكتاب إلى العربية الدكتور عامر شيخوني وصدر ببيروت في عام (2021) عن “الدار العربية للعلوم ناشرون”، وتُرجم إلى الفارسية مرتَين، صدرت الترجمة الأولى بطهران في العام الراهن (2024) عن منشورات “جهان كتاب”، وصدرت الترجمة الثانية بطهران عن منشورات “كام نو”.
إنَّ المنطق العملي الذي تسير عليه إسرائيل والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، ولا سيما المملكة المتحدة، هو كالآتي: «يحقّ لإسرائيل أن تفعل أيّ شيء لِلدفاع عن نفسها، حتّى لو كان فعلها مناهضاً لجميع اتفاقيات القانون الدولي وحقوق الإنسان والحقوق الإنسانية وأنّها تقوم بذلك فعلاً.. وكلّ من يحارب إسرائيل فهو إرهابيّ! والإرهابيُّ غير مشمول بحقوق الإنسان وأنّه مهدور الدم، ليس هو أو أفراد عائلته فحسب، بل يمكن أيضاً تهديم منزله السكني وحتى حيّه ومدينته وتسوية كلّ ذلك بالأرض». لقد أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي وغيره من الصهاينة مرارًا وتكرارًا على المقاتلين الذين يحاربون ضدّ إسرائيل تسمية “عماليق” (Amalekites) المذكورة في التوراة (يمكن بسهولة العثور على هذه التصريحات على موقع اليوتيوب)، وإنَّ تكليفهم الديني في طريقة التعامل مع العماليق ليس سوى «السماح بالإبادة الجماعية والقتل الجماعي، بمن في ذلك الرضع والأطفال والنساء والرجال والحيوانات». ذكرتُ ذلك مفصلاً في المحاضرة المعنونة: «الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة». الخطاب المهيمن على معظم وسائل الإعلام الغربية يسعى هو الآخر لترسيخ منطق إسرائيل، وبالطبع مع تظاهر خَدّاع بالحياد وعدم الانحياز أمام المخاطَب غير المطّلع.
إنَّ السياسة الخارجية الأمريكية طالما كانت سياسة استعمارية وإمبريالية منذ منتصف القرن العشرين على الأقل. إنَّ دعم الأنظمة الأكثر رجعية في الشرق الأوسط (المدرجة في قعر التصنيف الخاص بحقوق الإنسان والديمقراطية) والدعم غير المشروط لإسرائيل منذ نشأتها كان دائماً موضع انتقاد من قبل دعاة الحرية والعدالة في العالم، بمن فيهم الأمريكيين الأصليين والسود وحركة التحرير في أمريكا، والعديد من المثقفين في هذا البلد. لكنّ الرأسمالية الأميركية، التي تتجاهل الانقسامات الطبقية في مجتمعها، كانت رائدة في استخدام حقّ الفيتو لإلغاء القرارات الصادرة ضد إسرائيل في مجلس الأمن. ليس هناك شك في أنه لو لا الدعم الكبير من حكومة الولايات المتحدة والمسيحيين الصهاينة (أو من يُسموَن بالإنجيليين أو التبشيريين) واللوبي الصهيوني المؤثر في واشنطن، لما تمكّنت إسرائيل أبداً من ممارسة البلطجة في الشرق الأوسط وأن تنتهك علناً حقوق العرب والعجم باستخدام «القوّة العارية».
من الواضح أنَّ اليهود الفلسطينيين يتمتعون بحقوق مواطنة متساوية مثل المسيحيين والمسلمين في هذه الأرض، وإن أي معاداة لِلسامية في أي مكان في العالم مرفوضة ومدانة مثل رهاب الإسلام. ولكنّ انتقاد الصهيونية وإسرائيل لا يعني أبداً معاداة السامية. فقد نجد اليوم، أن اليهود المتنورين المناهضين للصهيونية يقفون في طليعة المعارضين لوحشية وانتهاكات الحكومة الإسرائيلية لحقوق الإنسان وحقوق الفلسطينيين. وفي الحركة الأخيرة المناهضة لإسرائيل في الجامعات الأمريكية كان الطلاب اليهود نشطين للغاية. للتعرف على مغالطات الصهاينة من النافع قراءة الكتاب الآتي:
Ilan Pappe, TEN MYTHS ABOUT ISRAEL, New York: Verso, 2017
ُترجم هذا الكتاب إلى العربية بالوصف الآتي:
إيلان بابيه، عشر خرافات عن إسرائيل، ترجمة: سارة عبد الحليم، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2018). وتُرجم لفارسية بالوصف الآتي: (ایلان پاپه، ده غلط مشهور درباره اسرائیل، ترجمه وحید خضاب، تهران: کتابستان معرفت، ۱۴۰۳ش).
إنَّ انتقاد إسرائيل والقوّة العظمى الراعية لها لا يعني أنّ المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين غير قابلين للانتقاد ومعصومين من الخطأ. فكلّ إنسان معرّض للخطأ ويمكن انتقاده. ولا ينبغي للعمليات الرامية إلى مكافحة الجرائم الإسرائيلية أن تخفي مشاكل هذه الجماعات القتالية. بيد أنّ هؤلاء المناضلين لم يخطئوا قطّ في العمل على تحرير أرضهم من براثن الغزاة، وفي ضرورة محاربة الفصل العنصري والاستعمار والاحتلال، وفي معركة الحصول على حقّ تقرير المصير، وفي السعي إلى نيل حقّهم في التمتع بحقوق عادلة وحياة حرة ومستقلة. إنَّ هؤلاء المقاتلين في مقارعتهم لإرهاب الدولة دفاعاً عن العوائل والعزّل من أبناء أرضهم وفي حرب غير متكافئة يستحقون تشجيع وإشادة دعاة الحرية والعدالة في العالم.
يتلقّى المقاتلون الفلسطينيون واللبنانيون واليمنيون والعراقيون ضدّ الصهيونية وجرائم إسرائيل مساعدات مالية ومشورة وربما بعض الأسلحة من الحكومات الإسلامية في المنطقة، بما في ذلك جمهورية إيران الإسلامية ودولة قطر. أما الإمبراطورية الإعلامية الغربية التابعة لحكومات إسرائيل والولايات المتحدة والعديد من الحكومات الأوروبية تقدّم هؤلاء المقاتلين على أنهم «قوات بالوكالة» عن الجمهورية إيران الإسلامية، معتبرين هذه المساعدات بمثابة السبب الرئيس لفرض العقوبات القاسية على إيران من ناحية، ومن ناحية أخرى يعدّون هذا الدعم سبباً في اغتيال النخب الإيرانية ومؤخراً الهجوم على الأراضي الإيرانية. ولكن إذا كانت مساعدة هؤلاء المقاتلين أمراً مرفوضاً ومحظوراً، فإن المساعدات التسليحية والاقتصادية والإعلامية التي تقدّمها أمريكا وبعض الدول الأوروبية لإسرائيل مرفوضة بالدرجة الأولى. إنها ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين (أو المعايير المزدوجة) التي تفرز مثل هذا الخطاب الذي يقول: لنا الحق في مساعدة إسرائيل في الإرهاب والإبادة الجماعية والمذبحة التي يتعرّض لها الآلاف من الأبرياء العزل، ولكن مساعدة الدول الأخرى لقوات التحرير المقاتلة أمر مدان! ليس ثمّة منطق يكمن وراء مثل هذا الحكم غير العادل سوى منطق «القوة والقسوة الجامحة والظلم». إذا كانت المساعدات غير المشروطة التي تقدّمها الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية لإسرائيل لا تجعل من إسرائيل «قوة بالوكالة» للولايات المتحدة في المنطقة، فلماذا تؤدي مساعدات الجمهورية الإسلامية الإيرانية للمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين والعراقيين إلى جعل هؤلاء «قوّة بالوكالة»؟ هذا ازدراء لِكرامة وحقّ الاختيار والاستقلال للمقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين والعراقيين الذين يضحّون بحياتهم للدفاع عن أرضهم ومثلهم الإنسانية.
إنَّ معظم الحكومات في الشرق الأوسط تحكم بنهج «استبدادي وديكتاتوري»، ولطالما كانت بعض هذه الأنظمة الاستبدادية معارضة لإسرائيل، مثل نظام حافظ الأسد وابنه بشار الأسد في سوريا، ومعمّر القذافي في ليبيا، وصدام حسين في العراق. فيما كانت بعض الدول العربية الأخرى في المنطقة في المعسكر البريطاني والأمريكي منذ البداية، مثل المملكة العربية السعودية والأردن والمغرب والبحرين والإمارات العربية المتحدة. إنَّ صراع حكومات الفئة الأولى مع الصهيونية لا يبرر أبداً طغيان وديكتاتورية أنظمتها، كما أنَّ التقدم العلمي وحرية التعبير والديمقراطية في أمريكا وبريطانيا لا يمكن أبداً أن يبرر سياساتهم القمعية والاستعمارية وسياساتهم المعارضة لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط (وفي أجزاء أخرى من العالم). ومن ثمّ يجب إدانة السياسات والإجراءات الخاطئة لأيّ دولة، ويجب –في آن- دعم السياسات والإجراءات الصحيحة لأيّ دولة. أي إنَّ التعامل العشوائي مع مثل هذه المواقف وقراءة سياسات الأنظمة في سلّة واحدة مرفوض نظرياً وعملياً.
جمهورية إيران الإسلامية غير مستثناة من هذه الازدواجية. في سياق نقد الاستبداد الديني (ولاية الفقيه المطلقة) لا يمكن مطلقاً إنكار الفشل الهيكلي، والفساد المؤسسي، وقمع الحريات المشروعة والقانونية، وجعل الغالبية العظمى من المؤسسات المنتخبة مجرد مؤسسات شكلية من خلال المؤسسات التنصيبية غير المنتخبة، وكذلك حرمان الناس، وخاصة النساء من إمكانية اختيار نمط حياة أفضل واختيار حياة طبيعية تمامًا، ومن ثمّ لا يمكن إنكار استياء الغالبية العظمى من المواطنين من هذا الشكل من الحكم. للمزيد حول هذا الأمر انظر المقال: «الإصلاحات الهيكلية والنظام غير القابل للإصلاح». ومن هذا المنطلق، ناهضت الجمهورية الإسلامية منذ بدايتها أمريكا وإسرائيل بمنهج خاص. وكان الاستيلاء على السفارة الأمريكية بطهران واحتجاز موظفيها كرهائن في عام 1980 مثالاً على أسلوب تعامل قادة الجمهورية الإسلامية مع الولايات المتحدة.
تتخذ الجمهورية الإسلامية الإيرانية من «إزالة إسرائيل من العالم ومن خريطة الشرق الأوسط» شعاراً مركزياً لها، وأنها من خلال تأسيسها حزب الله في لبنان ودعمها الشامل له، وكذلك من خلال دعم حماس في فلسطين المحتلة والحوثيين وفي اليمن وبعض الجماعات العراقية، ووقوفها لمنع سقوط الدكتاتور السوري بشار الأسد بوصفه المعقل الأول للمقاومة ضدّ إسرائيل، قد بادرت عملياً إلى تطبيق ذلك الشعار. وفي واقع الأمر تعمل الجمهورية الإسلامية الإيرانية على «منافسة بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأميركية» (في قيام إسرائيل ودعمهما الشامل) من خلال مهاجمة إسرائيل من جذورها. لمثل هذه المواقف والسياسات تعتبر إسرائيل إيران عدوّها الأول، وقد أخضعت الولايات المتحدة إيران لأشدّ العقوبات في التاريخ. وفي هذا السياق ينبغي أن نضيف إلى هذه القائمة بعض التهاون والتراخي من قبل الأمم المتحدة في فرض العقوبات المتعلّقة بالطاقة النووية.
يبدو أن «الصراع الهيكلي مع إسرائيل» يشكّل المحور الأكبر للمنفعة والمصالح الوطنية في أذهان قادة الجمهورية الإسلامية. فبعد انتهاء الحرب مع صدام حسين، لا يمكن أن نجد محوراً أكبر منه. ومن المحتمل جداً أن هذا العنصر يمثل محوراً أكبر وأهم من مهمة توفير سبل العيش الكريم والرفاهية للمواطنين الإيرانيين، أو على الأقل أن العديد من المواطنين يعتقدون بذلك. إنَّ التقاعس وعدم الكفاءة والفساد المتفشي بالأرقام الفلكية والعقوبات المنهكة تشكّل ضغوطاً شاقّة على الطبقة الوسطى الإيرانية والطبقات الضعيفة وتوفر مهاداً لقبول شعارات مثل «لا غزة ولا لبنان، حياتي فداء لإيران» والنزعات القومية المتطرفة.
في المظاهرات العالمية المناهضة لإسرائيل في العديد من أنحاء العالم (بما في ذلك في أمريكا، والتي شهدتُها بشكل مباشر)، كانت نسبة مشاركة الإيرانيين هي الأدنى بين المسلمين في الخارج. وفي إيران أيضاً، وبصرف النظر عن الدعاية الحكومية الرسمية، فإن مستوى التعاطف الشعبي مع غزة ولبنان كان أقل من الدول الأخرى في المنطقة. كل هذا كان بسبب إفراط الجمهورية الإسلامية أو بسبب توظيفها الذرائعي لمبدأ دعم «محور المقاومة» وذلك كأداة للتغطية على نقاط الضعف البنيوي في منهج حكمها والذي لا يمكن التغاضي عنه. هذا يعني إن الجمهورية الإسلامية في حقيقة الأمر توظّف محاربتها لإسرائيل للتغطية على حكمها غير الناجع، وإن العديد من المواطنين الإيرانيين أدركوا ذلك.
إن التضامن مع ظلامة فلسطين ومحاربة الصهيونية لا يعني مطلقاً صحة السياسات الداخلية للجمهورية الإسلامية وطريقة تعامل هذا النظام مع مواطنيه. فهذان أمران مستقلان ومنفصلان. يمكن للمرء أن يكون مدافعاً مشروطاً عن السياسة الأولى ومنتقداً بنيوياً للسياسة الثانية. إن دعم قضية فلسطين، وإدانة الجرائم الإسرائيلية الجسيمة والمخالفة لمعايير حقوق الإنسان، ومحاربة الصهيونية، تمثّل المطالب المحورية الثلاثة لدى الأعم الأغلب من دعاة الحرية في العالم، وبصرف النظر عن دينهم وعرقهم وانتمائهم وجنسهم. كما أن انتقاد سياسات الجمهورية الإسلامية تجاه مواطنيها، ولا سيما قمع حرياتهم المشروعة والقانونية، يتفق بشأنه دعاة الحرية والعدالة في أنحاء العالم.
وهنالك مستويات لهذا الميثاق ذو المحاور الثلاثة (المتمثلة في 1. دعم القضية الفلسطينية، و2. إدانة الجرائم الإسرائيلية الجسيمة المخالفة لمعايير حقوق الإنسان، و3. مكافحة الصهيونية). ثمّة من يؤمنون بهذا الميثاق في قلوبهم فقط. وثمّة آخرون لا يقتصر دَورهم على التضامن القلبي، بل يصرّحون ببعض الكلمات العاطفية والمتضامنة والتي تتراوح بين القوة والضعف. وهنالك ثلة قليلة تضع «عملياً» خطوة في هذا الطريق. والمؤازرون أيضاً ينقسمون على فئات، الفئة الأكبر يقدّمون الدعم المالي، وإنَّ أعلى أشكال الدعم يتمثّل في الدعم الاستشاري والدعم بالسلاح. أمّا أعلى أنماط المساعدة والمؤازرة فهي إرسال القوة العسكرية، وهو خارج نطاق بحثنا. إذا كانت ثمّة حكومة قد اختارت المستوى الأخير (المساعدات المالية والاستشارات والسلاح) لمساعدة المقاتلين في الميدان، فعليها أن تدرك أن الطرف الآخر لا يتهاون ولا يقعد صامتاً. لقد أظهرت إسرائيل والولايات المتحدة ومؤيدوها الأوروبيون الآخرون أنهم لم يلتزموا بأيّ من معايير حقوق الإنسان والقانون الدولي من أجل تحقيق أهدافهم، وإنَّ الحكومةَ التي تتجرأ على تحدّي «نظام الهيمنة» فإنّهم يكبّدونها خسائر جسيمة، بدءاً من العقوبات القاسية، واغتيال الكفاءات والنخب العلمية، وخلق الاضطرابات وعرقلة الأمن، ووصولاً إلى الهجوم العسكري.
على مثل هذه الحكومة قبل أن تتبنّى تقديم هذه المساعدات الاستراتيجية الخارجية أن تنجز بعض التدابير العَمَلية الجادة في الداخل: تحقيق رفاهية المواطنين ورفع احتياجاتهم، وتحقيق رضا المواطنين من الحكم الكفوء على المستوى العملي، والاعتراف بحقّهم في الاحتجاج والتظاهر السلمي، وحرية التعبير وحرية نقد السلطة (التي تتبلور في حرية الصحافة)، وجعل السلطة القضائية مستقلة حقاً عن الإرادة السياسية العليا، وإجراء الانتخابات الحرة والتنافسية، والاعتراف بحق المواطنين، ولا سيما النساء في اختيار أسلوب حياتهم، والفصل بين المؤسسة الدينية والدولة، وتداول السلطة السياسية على كافة المستويات، والرجوع إلى استطلاعات الرأي العام في القضايا الكبرى (بما في ذلك طريقة التعامل مع معضلة إسرائيل)، وإيلاء الأولوية المطلقة للمصالح الوطنية في جميع سياسات الدولة.
إنَّ الحكومةَ التي قمعت مراراً وتكراراً احتجاجات شعبها السلمية، والتي لا يزال منتقدوها الحريصون تحت إقامة جبرية غير قانونية لأكثر من عقد من الزمن، ولديها عدد كبير من السجناء السياسيين، وصحافتها وأحزابها السياسية المستقلة غير حرة، ونسائها مجبرات على تقبل نمط الحياة واللباس حسب رأي الحكومة، ونهج حكمها -بحسب الإحصائيات الرسمية- يشكّل موضع استياء الأغلبية الساحقة من المواطنين، وأعضاء برلمانها ليسوا الممثلين الحقيقيين للمواطنين، ومساعداتها الخارجية بل مطلق قراراتها الكبرى لم تكن بموافقة من قبل الممثلين الحقيقيين للمواطنين، والحكومة التي –بكلمةٍ واحدة- تمارس «الظلم» بحق مواطنيها، فإنّها أخلاقياً غير مؤهلة لأنْ تكون مدافعة عن مضطهدي البلدان الأخرى، وليس من شأنها أن تبادر للقضاء على الاضطهاد على المستوى الدولي. فبحسب المثل الفارسيّ: “المصباح الذي يحتاجه المرء في بيته لا ينبغي أن يتبرع به للمسجد”، فالأقربون أولى بالمعروف.
ومن وجهة نظر أخرى، ينبغي فصل المناقشة النظرية والأخلاقية والقانونية والأيديولوجية حول «الحق والباطل» عن المناقشة السياسية وصنع القرار في السياسة الخارجية التي تعتمد بالدرجة الأساس على «الإمكانيات العملية». إنَّ القدرات العَمَلية للجمهورية الإسلامية -بالمقارنة مع إسرائيل المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية- محدودة للغاية. وبصرف النظر عن المثالية والتهديدات والأراجيز الحماسية، فإنّ الدخول في مثل هذه المعركة غير المتكافئة، رغم شجاعة ونقاء وتضحية المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين (رحمهم الله جميعاً)، يتطلب معدّات تكنولوجية متطوّرة وأسلحة أكثر تقدّماً، لا سيما على مستوى القوّة الجوية. يجب على الجمهورية الإسلامية -قبل اتخاذ أي إجراء- أن تفكّر في الدفاع عن حياة مواطنيها وسلامتهم، وذلك أمام نظام أثبت أنَّ حياة الآخرين لا تساوي شيئاً بالنسبة له، «لا شيء» بالمعنى الحرفي لِلكلمة. ومن ثمّ ينبغي رسم السياسات والشعارات بحسب الإمكانيات المتوفرة، والنزول من المثالية المفرطة إلى الواقعية والاعتناء بحتمية الإمكانيات المحدودة. وينبغي تعديل الشعارات والدعاية في السياسة الخارجية ومحور المقاومة وفقاً للإمكانيات العملية، مع إعطاء أولوية صارمة لتأمين احتياجات ورفاهية المواطنين الإيرانيين.
أما الباحثون عن الحجّة الشرعية في السياسة، فإنَّ الآية الكريمة: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (البقرة: 286) ينبغي أن تكون نصب أعينهم والمبدأ الأساس في مواقفهم وأعمالهم. هذه هي السياسة العملية لجميع الأئمة، ولا سيما إمام المذهب الإمام جعفر الصادق (ع)، ويكفي –في هذا الصدد- الالتفات إلى الطريقة التي واجه بها الأئمة (ع) ثورة زيد بن علي (رضوان الله عليه). وفيما يرتبط بالأخطاء الشائعة حول سيد الشهداء (ع) انظر هذا المقال: الإمام الحسين من منظور آخر: قاعدة أم استثناء؟ وينبغي أن ننتبه: نحن غير مسؤولين عن الأمّة الإسلامية في العالم كله، فبحسب الإمكانيات المتوفرة ثمّة بون شاسع بيننا وبين مثل هذا الهدف. عليكم في الوقت الراهن توفير الأمن والعيش الكريم والرفاهية للشعب الإيراني، وإذا نجحتم في هذه المهمّة، عند ذلك اذهبوا إلى الأمّة الإسلامية. وبعبارة أوضح انزلوا من عرش المثالية «الأممية» إلى بساط الواقعية المتمثلة في مهمة «تنظيم شؤون الشعب». نحن في مواجهة الظلم والتمييز والاحتلال والمجازر –التي هي مدانة كلّها قانونياً وأخلاقياً وشرعاً- مسؤولون بقدر استطاعتنا، وليس أكثر من ذلك.
إنَّ إسرائيل ما زالت قادرة على اغتيال القادة المسلحين الفلسطينيين أو اللبنانيين وأن تواصل الإبادة الجماعية والمذابح بحق الأبرياء والعزل. وبوسع للولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية أن تذبح الإنسانية وتنتهك حقوق الإنسان من خلال تقديم الدعم المالي والاستخباراتي والأسلحة غير المشروط للعدوان الإسرائيلي. وبإمكان الإمبراطورية الإعلامية الغربية أيضاً أن تقلب الحقيقة بتغيير مكان الظالم والمظلوم، والمحتَل والمغتصب حقّه، والإرهابي والضحية. ولكن كونوا واثقين، إنَّ فلسطين لا يمكن إزالتها عن خريطة الشرق الأوسط، وإن النضال والقتال ضدّ من احتلّوا فلسطين لا ينتهي باغتيال قادة الجماعات المسلحة. وإنَّ دعم الإيرانيين لقضية فلسطين ولبنان المستقل «بالقدر المعقول والممكن» سيستمر إلى جانب سائر دعاة الحرية والعدالة في العالَم، إن شاء الله.