تأملات حول حرب إسرائيل ضد إيران

إسرائيل، ممقوتة أكثر من أيّ وقت مضى

إن العدوان الإسرائيلي على الأراضي الإيرانية وقتل المدنيين من أطفال ونساء، واغتيال العلماء النووين وقتل القيادات العسكرية العليا وتهديم المنشآت النووية الإيرانية، كلّ ذلك مُدان تماماً من كلّ جانب وعلى كافة المستويات. إن الكيان الصهيوني منذ تكوينه غير الشرعي في الأراضي الفلسطينية قد أثبت من خلال الاعتداء والاغتيال وقتل المدنيين وانتهاك قواعد القانون الدولي، والانتهاك المكرر لكافة القرارات الأممية (منذ عام 1967 على أقل تقدير)، أثبت من خلال كلّ هذه السلوكيات والمواقف أنّه المتسبب الأكبر في عدم الاستقرار والتوتر في المنطقة. إنّ ممارسات إسرائيل وأفعالها خلال العامَين الأخيرين في غزّة وبحسب بتصريح وإقرار محكمة العدل الدولية في لاهاي ومنظمة العفو الدولية ومنظمة أطباء بلا حدود واليونسيف وغيرها من المنظمات الدولية والأممية، تُعدّ إبادة جماعية، وتطهيراً عِرقياً، وقتلاً جماعياً، وقتلاً يستهدف الأطفال والنساء، وتعذيباً جماعياً عن طريق التجويع. وقد مارست إسرائيل أفعالاً مشابهة في جنوب لبنان وفي مرتفعات جولان السوريّة واليمن. إنَّ إسرائيل وبحجّة «الدفاع عن النفس» لا تعترف بأيّ حقّ ولا تحترم أيّ فرد وطرف تزعمه عَدوّاً أو تهديداً لها. الكيان الصهيوني هو المصداق البارز للطاغوت والشيطان وانهيار الانسانية، فلا شكّ ولا ريب في ظلامية وقساوة وتوحش القيادات الإسرائيلية المدانين.

الصهيونية ليست معادلة لِليهودية، بل إنَّ قسماً غير قليل من کبار اليهود في أرجاء العالَم يعدّون ممارسات إسرائيل وسلوكياتها وصمة عار على اليهود ويتبرّون منها. من جانب آخر لا يوجد ثمّة شكّ في أنَّ اليهود لمجرّد كونهم يدينون باليهودية كانوا على مدى قرون عدّة في الغرب المسيحي ولغاية الحرب العالمية الثانية معرّضين لِلإيذاء والاضطهاد، وقد تَمثَّل ذروة ذلك في أحداث الهولوكوست الشنيعة في ألمانيا النازية. ومع بدايات القرن العشرين طويت صفحة جديدة وتغيّر هذا الوضعُ في الغرب المسيحي وأخذت الصهيونية المسيحية تتنامى بين الإنجيليين وسُمِحَ لِلصهيونية المسيحية بالظهور والنشاط، إذ عملت كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وأمريكا -ومن أجل التكفير عن الخطئية التي ارتكبها المسيحيون الغربيون في حقّ اليهود الغربيين- على إقامة إسرائيل في أرض فلسطين، وراحوا يدعمون هذا الكيان الناشئ ويجهزونه من دون أيّ شروط وقيود، لِتصبح إسرائيل عَمَلياً الولاية الواحدة والخمسين لأمريكا، وبات نَقد إسرائيل بمثابة جريمة معاداة السامية التي لا تُغتفَر!

لم تكتفِ إسرائيل بنفس القدر من الأراضي الفلسطينية التي اعترفت بها الأمم المتحدة في عام 1948 وبدعم واسع من حماتها الغربيين، بل ضاعفت في حروبها مع العرب مساحة الأرض التي احتلتها. أمّا اليوم، فقد بات واضحاً لِلجميع أن إسرائيل تدّعي امتلاك فلسطين كاملةً، ولا تعتبر سكّانها الأصليين بَشَراً على الإطلاق! ومن ثمّ فلا حرج في قتلهم [من المنظور الصهيوني]. ففي أيديولوجية الصهيونية، المستندة إلى تفسيرٍ للتوراة، يُعَدّ كل من يوصَم بـ«العماليق» على أنّه مهدور الدم، إذ يمكن قتله من دون أي حرج، بل حتّى يمكن إبادة أطفاله ورضّعه وتجريف أرضه. إنَّ قادة إسرائيل، يصنّفون الفلسطينيين الذين يرفضون مغادرة أرض أجدادهم ولا يرحّبون بالمغتصب ضمن الـ«عماليق»، ويرتكبون بحقّهم مجازر يومية. يُنظَر محاضرتي بعنوان “الإِلهُ الأخلاقيّ” وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن الكريم والكتاب المقدّس

إنَّ إسرائيل وبدعمٍ لا متناهي من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول الأوربية (من خلال الدعم المالي المفتوح، والدعم العسكري والاستخباراتي والأمني) أُتيح لها أن تمارس –بالمعنى الواقعي لِلكلمة- أيّ حماقة وأيّ خطئية تحلو لها، فإنّها نقضت كلّ المواثيق الدولية وانتهكت كلّ المعايير الأخلاقية وأظهرت منتهى التوحش والقسوة البشرية. ولئن لم يكن لإسرائيل مثل هؤلاء الداعمين، لما أمكنها ارتكاب مثل هذه الجرائم واسعة النطاق في العالَم. ورغم أنَّ بعض الدول الأوربية في ردّة فعلها بإزاء فاجعة تعذيب سكّان غزّة المدنيين العُزّل بالتجويع والقتل قد اكتفت ببضعة تصريحات وعتب لفظي فإنّها لم تتجاوز في مواقفها حدود الكلمات والتصريحات. إنَّ حكومة الولايات المتحدة (سواء أكانت من الديمقراطيين أو الجمهوريين) هي الشريك الرئيسي لإسرائيل في هذه الجرائم وذلك من خلال استخدامها حقّ النقض مراراً وتكراراً ضدّ كلّ قرار كان يدافع عن الفلسطينيين المضطهدين والسّلام ووقف إطلاق النار الدائم.

إنَّ تخصيب اليورانيوم لا يعني بالضرورة أنّه لأغراض عسكرية، وإنَّ الاستخدام السِلمي لِلطاقة النووية هو حقُّ مكفول ومُسلَّم به لإيران. إنَّ إسرائيل التي تمتلك السلاح النووي والولايات المتحدة بوصفها الدولة الوحيدة التي استخدمت القنابل الذرية لا يحقّ لهما قانونياً ولا أخلاقياً أن تتحكّما بقرارات الدول الأخرى -بما في ذلك إيران- أو تشنّا هجوماً عسكرياً على إيران بهذه الذريعة. إنَّ السلاح النووي مجرّد ذريعة، فالغاية الرئيسة هي أن إسرائيل لا تريد لأيّ بلد أن يعارض عَمَلياً سياساتها التوسعية والعدوانية. ما تريده إسرائيل منطقةً إقليمية خاضعة ومطيعة، مثل معظم الدول العربية، وإنَّ إيران لم تكن كذلك. وإنَّ الولايات المتحدة أيضاً -التي تُعدّ اليوم القوّة العظمى في العالَم وبلا منازع- تجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية قوّة مزعجة لسياساتها وأهدافها.

على الرغم من أن الولايات المتحدة في الهجمة العسكرية الأخيرة تظاهرت بأنّها غير معنيّة بما فعلته إسرائيل وقد يمكننا أن نحمل ذلك على محمل حسن، بيد أنّ موقفها الحقيقيّ لم يقتصر على عدم معارضة العدوان الإسرائيلي، (فإنْ كان معارِضة لها لما تمكّنت إسرائيل من شنّ الهجوم)، بل إنَّ ترامب هو أوّل رئيس أمريكي يأذن لإسرائيل بشنّ هجوم عسكريّ على إيران. لقد تظاهرت الولايات المتحدة بمثل هذه السياسة حمايةً لقواعدها ومواطنيها في المنطقة. على أيّ حال هاجمت إسرائيل إيران بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة وبأحدث الأسلحة الأمريكية التي لم يستخدمها أَحدٌ من قبل بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، وإنَّ هذا العدوان مستمر ولم ينته حتّى الآن. كما أن حجم الخسائر التي خلّفها العدوان الإسرائيلي لم يتّضح بعد، وإنَّ خطة ترامب تهدف إلى فرض مطالبه غير المبررة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

على الرغم من أن إسرائيل بذلت كلّ ما في وسعها ضدّ جيرانها ودول الشّرق الأوسط في المجال العسكري وبأسلحتها الأمريكية والأوروبية المتطورة لِلغاية، إلا أنّها فشلت فشلاً ذريعاً في ثلاثة مجالات: القانون والأخلاق والإنسانية، ومن ثمَّ باتت في حقيقة الأمر أكثر دولة ممقوتة في العالَم. كما أن أمريكا في عهد ترامب -بانتهاكه معظم القيم الأمريكية في سياساته الداخلية والخارجية- تشهد تراجعاً حاداً، وإنَّ دعمه غير المشروط لإسرائيل جعل الولايات المتحدة شريكة في هذه الكراهية الدولية.

ولكن مع كلّ ذلك فإنَّ العار الكبير الذي أُلحق بإسرائيل لا يعني بالضرورة أنّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سياساتها الداخلية بإزاء مواطنيها كانت على صواب، أو أنّها لم تخطئ في سياستها الخارجية. لقد كان الدكتاتور الليبي القذّافي، أو الدكتاتور العراقي صدّام، أو الدكتاتور السوري الأسد، كلّ هؤلاء كانوا ضدّ إسرائيل! على النخبة الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تُمثّل أقلية قد لا تتجاوز 20% من الشعب الإيراني أن تسمع وقبل فوات الأوان صوتَ الأكثرية البالغة أزيد من 80% من أفراد الشعب، وأن تحقق الرضا العام وأن تدير البلاد طبقاً للإرادة الوطنية. لقد نوهتُ إلى بعض هذه النكات بشأن إيران وإسرائيل في هذه المقابلة الدولية. (7 مايو 2025)

لا شكّ في وجوب قطع رجل المعتدي وإبعاده عن أرض الوطن، ولكن على أيّ حال فإنَّ «القدرات الوطنية» -شئنا أم أبينا ذلك- هي التي تحدد حدود هذا الدفاع والثأر والرد. في السابق، وفي معرض الدفاع والذّود عن المظهدين من الشعوب الأخرى لم يُراعَ مبدءان: أولهما، أولوية رضا المواطنين الإيرانيين، وثانيهما، مراعاة القدرات الوطنية في هذه المساعدات الخارجية. يُنظر في ذلك مقالي (تأملاتٌ تتخطّى السياسات اليومية حول المصالح الوطنية) (10 تشرين الأول 2024).

في الوقت الراهن تم قمع حلفاء إيران بشدّة في حربهم ضدّ إسرائيل في فلسطين ولبنان واليمن وسوريا والعراق، وإنَّ إسرائيل وبكلّ وقاحة وعلى طريقة البلطجة عملت على شن هجوم عسكري على إيران. هنا يجب مرة أخرى مراعاة المبدأين نفسهما: «تقدّم الرضا العام على أيّ سياسةٍ ومطلب تهدف إليه النخبة الحاكمة، وأخذ القدرات الوطنية بالحسبان». لا يكفي أن تكون على حقّ؛ بل يجب أن تكون الأهداف والشعارات متناسبة مع القدرات الوطنية. كما أن النظام الدولي لا يقوم على الحقيقة والإنصاف، فعلى مرّ التاريخ كانت القوى غير الأخلاقية هي المهيمنة.

ما يهمّ الآن هو أولاً: أن يُحرَص على أن تكون الأضرار التي يتكبّدها المواطنون والبنى التحتية بأقلّ قدر ممكن. وثانياً: إنَّ الطاقة النووية وإنْ كانت حقّاً مكفولاً ومسلّماً به لإيران، فإنّها ليست الأمر الأهم، بل الأولوية والتقدّم لِلمصالح الوطنية ولحفظ إيران. ثالثاً: يجب تجنّب الشعارات غير المدعومة، وإنْ كانت شعارات صحيحة وعلى حقّ، إذ يجب أن يكون المنجَز العملي أكثر من الأقوال والشعارات. رابعاً: يمكن مواصلة الحرب ضدّ إسرائيل بطريقة محسوبة وأكثر عقلانية ومع مراعاة المبادئ الدبلوماسية والقانونية والحقوقية، إذ يجب رسم السياسة الداخلية والخارجية بناء على مبدأ الرضا العام والمصالح الوطنية.

هذه هي النسخة العربیة لما نشرته على موقعي الفارسي بتاريخ 13 يونيو 2025.

النسخة الإنجليزية (17 يونيو 2025)